نشرت صحيفة الرياض السعودية مقالًا للكاتبة ملحة عبدالله، تناولت فيه الفرق بين اللطف والعطاء، وكيف يمكن أن يتحول اللطف من سلوك محمود إلى عطاء يستنزف المشاعر ويقدم تنازلات مفرطة.. نعرض من المقال ما يلى:
فى ظل ما يُعرَف باللطف، يكمن العطف تحت معطفه، الذى يختلف ويتفق معه فى كثير من التقاطعات، واللطيف كما فى المعجم هو: صاحب رفق وأدب فى المعاملة، رقيق، دمث الأخلاق، مهذّب. ونحن ومن سمات الشخصية العربية فى تعاملها وفى سلوكها يجب أن تتسم باللطف كما هو مُعَرّف.
ولكننا فى يومنا هذا نلحظ ظهور إشكالية تحدث فى فهم هذا اللطف والمعاملة السلوكية المحمودة والحقيقة أن هناك فرقًا كبيرًا فى التعامل مع الآخرين بلطف وأدب جم ودماثة خلق، وبين ما هو عطاء فياض وتنازلات تفوق الحدود فى ضوء هذا السلوك المشترك.
إذا لا بد من أن نجد تعريفًا جامعًا مانعًا بين العطاء بلا حدود والتنازلات وبين الحقوق والواجبات والقواعد لهذا المسلك، وهذا أمر مهم للغاية.
إن العطاء بكل صوره فى حياتنا أمر محمود كما أسلفنا، لكن هناك صورًا مختلفة لهذا العطاء يبدأ من الابتسامة ودماثة الخلق، وينتهى بالأمور المادية المفرطة، ولذا أصبح العطاء نوعين إما معنويًا كما ذكرنا أو ماديًا، وهو الأمر الذى إذا ما زاد عن حده أصبح سمة للضعف والخنوع والخوف من غضب الآخر أو لومه وخسارته، ويصبح العطاء هنا حقا مكتسبا يُسأل عنه صاحبه بلا هوادة ويفضى فى آخر الأمر إلى انفجار يحمل فى طياته قنبلة موقوتة ونحن لا نعلم أن المشاعر تفيض بالنقصان والتراجع على حين غرة.
نحن نعطى بلا حدود، إذا ما حاولنا إرضاء الآخر وتحمله، وقد يختلط الأمر بين العطف واللطف، وبطبيعة الحال يوجد هناك فرق كبير بين اللطف والعطف، فاللطف هو ذلك العطاء الدائم لكى نرضى الآخرين كما أسلفنا. حينما تصبح لطيفا تصبح أداة لهذا الإرضاء، وحينما تصبح أداة للرضى تحتل رتبة المعطاء طيلة الوقت، وبالتالى حينما تكون لطيفًا أصبح لزامًا عليك أن تعطى الآخر كل ما يتطلبه بغض النظر عن عوائد هذا العطاء.
ومن هنا يكون هذا اللطف أداة لتحمل الشخصية ما لا تطيق فى نهاية المطاف، لكن حرصها الشديد على إرضاء الآخرين يجعل ذاته تمتلئ شيئًا فشيئًا فيما يتلقاه من سلب قواه العاطفية ووضع مشاعره على المحك، إن لم تستمر فى العطاء فأنت مقصر، وحينما تصبح مقصرًا تكون فى خانة الأعداء وناكرى الحب والعطف، فيصبح الفرد منا فى الخانة الأضعف المتنازلة، الذى لا بد أن يبذل كل ما حوته يداه أو مشاعره سواء كان عطاء ماديًا أو معنويًا، لكى يبرهن عن مدى تمسكه بالآخر والإبقاء عليه!
ومما لا شك فيه أن ديننا وعقيدتنا تحثنا على العطاء وبلا انتظار أى مردود منه وهذا أمر جيد وحميد بل وفضيلة من فضائل الأخلاق؛ لكنه مع الإفراط فيه يتحول إلى استنزاف للمشاعر والمشاعر هى أغلى ما يمتلكه الإنسان.
قد نتحمل الآخرين ونتغاضى عن قسوتهم فى بعض الأحيان، وهو نوع من اللطف والحرص على خط رفيع قد ينكسر، فنمرر المواقف المتلاحقة إذ ربما يفيق الآخر من غفوته وينصلح حاله، وفى هذه الحالة نكون ضعفاء لا لطفاء.. فالإنسان منا محمل بالقيم وبالقوانين الأخلاقية، التى يتوجب إظهارها من بداية التعامل، فى أن نضع حدودًا فاصلة تحد بين اللطف والعطف، وبين العطاء واستدرار المشاعر، فكثرة الصبر فى أول المواقف وتحملها يؤدى بنا فى آخر المطاف إلى أن هذا هو المطلوب، وإن تحيد عنه تصبح فردا متغيرا متمردا غير محب غير مهتم بالآخر كما بفهمه، ونصبح مطالبين بالعودة إلى ما كنا عليه من لطف وعطف وعطاء وتحمل وكياسة، وإلا فإن هناك متغيرًا قد طرأ على سلوكك حملك على هذا الإحجام عما كنت تفعله سابقًا غير متقبل للآخر وبأى صفة كانت.
وبطبيعة الحال نحن بشر لا نقوى على هدر الإحساس باستنزاف المشاعر بالقياس المرير بين إما تعطى او تذهب، إما أن تتحمل وتجلد ذاتك أو أنت فى مهب الريح نظرًا إلى ما تقدم. ومن هنا يصبح العطاء مطية لمن تعود وسلب وأخذ حتى لو برد أى اعتبار فمن هو المحق ومن هو المخطئ إذا؟
لقد وجدت صديقة لى حميمة، تقف موقفًا قويًا لا رجعة فيه، تطالب زوجها بالطلاق برغم السنين الطويلة التى عاشاها الاثنان معًا، وبعدما تقدم بهما العمر وكبر الأولاد ترفض العيش معه، وبرغم أنه رجل وقور كريم باقٍ على العشرة كما يقولون.. وحين سألتها محاولة إثنائها كانت ترفض بشدة لدرجة أنها حمّلتنى صفة التعاطف معه! وحينما تناقشت معها فى مبررات القدوم على هذا الفعل برغم مرور الزمن الطويل بينهما، كانت دهشتى من أنه كان يضربها وينهرها فى بداية الزواج، وكانت تتحمله لأجل أطفالها وحين كبر الأولاد، وأصبح هو كيِّس لطيف أصبحت ترفضه وترفض العيش معه، وهو يتساءل: ماذا غيرك؟ من الذى لعب بتفكيرك، بدون أى يقين أن النفس تشبع وتمل وتتحمل إلى آخر نقطة فى مسيرة الحياة، وهو نوع من العطاء لكنه بصورته المقيتة الخانعة المستدامة على أن: سأكون أنا الأفضل بلا وضع حد وقانون فاصل فى بداية الأمر لهذا العطاء.
من هنا أدركت أن التمادى فى العطاء واللطف، ما هو إلا قنبلة موقوتة تنفجر على حين غرة وبلا مبررات، بينما الطرف الآخر يصبح حينها معذبًا لما استدره واستنزفه من مشاعر تعطى له بلا حدود، ويلوم نفسه فى كل لحظة على خسارته الفادحة لكنه قد فات الأوان!