(1)
هناك اعتقاد بأن يوم الجمعة به ساعة نحس.. ولكن أى ساعة هى فى زمن هذا اليوم..؟ لا أحد يعرف، ولأن يوم الجمعة الفائت كان يوم عيد، فإن الأمل كان كبيرا جدا ألا تأتى هذه الساعة فى اليوم المبارك هذا، إلا أن هذا الأمل لم يتحقق بالنسبة للمواطن «حسين عساكر» والذى كانت ساعة نحسه هى السادسة وخمس دقائق من مساء الجمعة الذى هو يوم العيد.. كان يسير على قدميه بين الناس الذين خرجوا للفسحة والفرحة فوق كوبرى قصر النيل، وفجأة وبلا مناسبة زعق وهتف «أنا عاوز أحكم البلد دى» كررها خمس مرات متتالية فى مسافة لا تتعدى السبعة أمتار، وعندما هم أن يزعق بالسادسة، حط عليه من أمسك به، وآخر وضع يده فوق فمه حتى كاد أن يكتم أنفاسه قائلا له بصوت كأنه سعال ذئب:
ــ اخرس.. إحنا ناقصينك.
لا أحد يتصور إن البلد تكون سايبة فى أيام الأعياد والعطلات الرسمية بل هى مؤمنة على أحسن ما يكون وخاصة المنشآت الحيوية مثل الجسور التى يرتادها البسطاء طلبا لبهجة الزحام، وحتى لا يتهم جهاز الأمن بالغفلة، فإنه يعتبر مثل هذه الأيام أيام طوارئ.. صحيح أن البلد كلها تعيش الطوارئ.. وعليه تكون هذه الأيام طوارئ الطوارئ.. وذلك خشية أن يندس بين هذه الجموع الغلبانة مخرب أو عميل أو حاقد أو مشعل فتنة، فإن الوجود الأمنى وغير المرئى على أحسن ما يكون.. وها هو «حسين عساكر» فى قبضة هؤلاء الرجال الأشداء.. حاول أمين
شرطة المباحث الذى يغلق فم «حسين» بكف يده أن يرفعها على اعتبار أن الأمور قد اتضحت لديه وأنه عاد إلى صوابه وهو فى قبضة الأمن، ولكنه بمجرد أن فعل زعق حسين من جديد « أنا عاوز أحكم البلد دى».. وهنا ضاق به أمين المباحث الآخر قائلا:
ــ دا أكيد شارب خمرة مغشوشة.. يفوق فى القسم.
يحدث كل هذا وقد تكوم كل جمهور العيد الموجود على الكوبرى فى هذه البقعة وما حولها فى حالة تكدس أغلقت الكوبرى تماما وتوقفت حركة السير وكلما سأل أحدهم الآخر إيه الحكاية؟ يرد عليه بهدوء:
ــ مسكوا واحد بيقول إنه عاوز يحكم البلد دى..
***
قسم قصر النيل، من أهم أقسام البوليس فى مصر كلها من جنوبها إلى شمالها، يكفى أن فى دائرة اختصاصه السفارة الأمريكية، والسفارة الإنجليزية، ولهما مستعمرة خاصة محاطة بالمتاريس والحواجز ،تشمل مربعا كاملا من منطقة جاردن سيتى، أى مصرى يدخل إليه لابد أن يخضع للفحص وأحيانا التفتيش الذاتى.. وإلى جوار القسم مباشرة السفارة الإندونيسية، وعلى بعد خطوات البنك العربى الأفريقى، وعلى ناصية الشارع الذى به القسم فندق الفورسيزون.. وأهم من كل هذا أن السيد الدكتور فتحى سرور يسكن بالقرب منه، وأيضا السيد الأستاذ كمال الشاذلى عمود الخرسانة القوى فى الحزب الوطنى سابقا وحاليا.. والقسم يخضع لعملية ترميم، فالمبنى الذى يحتله كان فى الأصل فيللا سكنية لعظيم، ولكن سبحان الله مغير الأحوال.. والعاملون فى هذا القسم شأنهم شأن العاملين فى قسم مصر الجديدة، يتم انتقاؤهم بعناية فائقة، تحسبا لأى موقف.. ويكفى الضابط أن يقول إنه على قوة قسم قصر النيل فتعرف أنه مميز أو عنده واسطة جامدة جدا.. فى الاستقبال كان الضابط «هيثم فؤاد» حفيد اللواء فؤاد رشوان ونجل اللواء مجدى فؤاد مساعد الوزير الآن هو الضابط المسئول.. سأل أمينى الشرطة: إيه الحكاية وسمع منهما ولبث دقيقة صامتا مفكرا ثم سأل:
ــ هو قال إيه بالظبط..
رد عليه أحد الأمناء مكررا الجملة ذات الخمس كلمات..
ــ أنا عاوز أحكم البلد دى..
لم يظهر أى توتر أو قلق على ملامح الضابط الشاب ابن الأكابر، وإنما ابتسم فى رفق وأمر الأمينين (رجال المباحث) بالعودة إلى مكان خدماتهما، وانفرد بأخينا حسين عساكر وهو يحاول أن يكون ودودا ونظر إليه قائلا:
ــ دى عملة تعملها ياحسين..؟ حد يشرب خمرة فى يوم مبارك زى ده..
رد حسين كأنه أحد صواريخ العيد التى يطلقها الصغار:
ــ أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. أنا أشرب خمرة، قسما بالله فى حياتى كلها ما دقت طعمها، ولا أعرف طريقها ولا سكتها.. هو أنا علشان قلت أنا عاوز أحكم البلد دى.. أبقى شارب خمرة..
بهدوء شديد وبنفس درجة الود قال الضابط هيثم:
ــ يبقى حشيش يا عم عساكر..؟ حشيش ولا بانجو.. أنا شايف إنه بانجو.. حاكم البانجو لطشته مش هيه..
من جديد رد حسين عساكر كأنه أحد صواريخ العيد:
ــ علىّ الطلاق بالتلاتة من مراتى فى عمرى كله ما شربت سيجارة ولا شفايفى لمست مبسم شيشة ولا غابة جوزة.. هو أنا علشان قلت أنا عاوز أحكم البلد دى أبقى حشاش ياضرِّيب بانجو.
ابتسم الضابط هيثم ابن الناس قائلا له:
ــ يبقى أنا فهمت صح، وقدرت صح.. أنت تقصد تحكم الجزاير علشان تربيهم وتأدبهم بعد اللى حصل منهم.
فى بلادة وفتور قال حسين:
ــ جزاير؟.. أنا مالى ومال الجزاير ياباشا..؟ ثم أنا مليش فى الكورة نهائى.. أنا دماغى كبيرة..
غابت كل علامات المودة والرقة من على وجه ابن الأكابر وصرخ:
ــ لما هيه مش الجزاير، أى بلد بقى اللى انت عاوز تحكمها..؟
ــ مصر ياباشا..!! عاوز أحكم مصر.. بلدى.. ياباشا..
فى هذه اللحظة تحديدا لم يعد ابن الناس ابن ناس.. أصبح ابن أقسام بوليس ورد عليه بيده قبل لسانه وصدّر إليه صفعة خاطفة قائلا:
ــ وحياة أمك.. واللى بيحكمها دلوقت مش عاجبك والا إيه..؟
قال حسين عساكر الذى انكسر بعد الصفعة المباغتة:
ــ يعجبنى والا مايعجبنيش.. أنا عاوز أحكم البلد دى.. وخلاص..
وحتى تكون الأوراق مضبوطة والقضية محبوكة تم إرسال المقبوض عليه إلى مستشفى قصر العينى القريب من دائرة القسم مع حراسة مشددة لتوقيع الكشف الطبى وعمل التحاليل اللازمة لكشف الحالة التى عليها المقبوض عليه والسبب فى حدوثها سواء كانت كحوليات أو مخدرات مع التوصية بسرعة الإنجاز نظرا لخطورة الأمر وأهميته.. ولم يمر من الزمن سوى ساعة ونصف الساعة حتى عاد أفراد الحراسة المشددة ومعهم المقبوض عليه «حسين عباس حسين عساكر» وفى أيديهم التقارير الطبية التى حررها الأطباء المتخصصون كل فى مجاله وكل تقرير موقع من صاحبه ومؤيد بخاتم المستشفى والنتيجة تؤكد عدم وجود أى أثر بشكل قاطع لوجود كحوليات أو مخدرات فى دم المذكور.. هنا تأمله الضابط هيثم بعقل جديد.. ونظرات مغايرة.. وخرجت الكلمات من بين أسنانه كأنها سم أفعى:
ــ تطلع مين انت يا اللى عاوز تحكم البلد دى..!!
***
وإلى العدد القادم بإذن الله