تبدت فى مراجعات «جمال عبدالناصر» إثر الهزيمة العسكرية عام (1967) نزعتان متجاورتان، نزعة شبه ليبرالية، أكدت على المواطنة والمشاركة السياسية والحقوق المتساوية للمواطنين بغض النظر عن انتمائهم الاجتماعى وموقفهم من الثورة.. ونزعة أخرى حاولت بقدر ما تستطيع الإبقاء على جذوة ثورة «يوليو» فى صلب أدوارها، غير أن الثورة الاجتماعية تراجعت فى سلم الأولويات بضغط التحديات الجديدة التى فرضت نفسها.
كان أفضل سيناريو ممكن التزاوج الفكرى والعملى بين التعددية السياسية والعدالة الاجتماعية واستقلال القرار الوطنى، حتى يستكمل مشروع «يوليو» زخمه وقدرته على التجديد بالنقد والإضافة.
كان خلل بنية النظام داعيا إلى ظاهرة «المثقف الحائر»، الذى لا يعرف لنفسه مرسى يستقر عليه ويطمئن له.
عبر السيناريست «أسامة أنور عكاشة» عن ذلك النوع من الحيرة فى أعماله الدرامية، كما فى كتاباته السياسية المباشرة.
جسد مسلسله «أرابيسك» حيرة بطله «حسن النعمانى» فى أزمة الهوية.. من نحن عرب أم فراعنة أم متوسطيون أم «بزراميط»؟!
كما بدت شخصيته الرئيسية «على البدرى» فى مسلسل «ليالى الحلمية» متناقضة وحائرة بين انتسابه إلى طبقة الباشوات من ناحية الأب وعامة المصريين من ناحية الأم، ناصرى مغرق فى رومانسيته مطلع شبابه، انفتاحى مع الانفتاح، واقعى بالمعايير السارية، لا يستقر على خيار.
«هاتفنى الصديق الذى أحب وأحترم …… رئيس تحرير صحيفة العربى ليسألنى إن كنت أريد أن أكتب للعدد الخاص الذى سيصدر فى ذكرى ميلاد جمال عبدالناصر وأجبته على الفور أجل.. وسأفعل.. وبعد المكالمة طفقت أفكر وأتساءل.. ماذا بقى لدينا لنقوله عنه؟ وسارع خاطر بالجواب: الكلام عن عبدالناصر لن ينفد ولن ينتهى.. حسنا.. فلأبحث عن أمر لم يسبق ذكره.. وداخلتنى الحيرة حتى أثقلت اليقظة فى عينى فأغمضتا على تلك المساحة بين هامش اليقظة وهامش النوم.. وانتابتنى غفوة لم تلبث أن غمرتنى فيها أطياف تداخلت وتقاربت ثم تباعدت لتنجلى أخيرا عن طيف واحد.. رأيته ماثلا ينظر إلى بنظرته النافذة التى لا تُنسى.. والابتسامة الواسعة حين يشرق وجهه الصعيدى الأسمر بما يبهجه أو يسره.. وكان لى معه حديث».
كانت تلك الحيلة الفنية شائعة ومتكررة فى كل الفانتازيات، التى دأبت «العربى» على نشرها لكبار كتاب السيناريو والروائيين.
فى ذلك الوقت من يناير (٢٠٠٦) كان «أسامة أنور عكاشة» مشتبكا فى مساجلات حادة حول العروبة، التى أنكر طبيعتها السياسية.
لم يكن مدفوعا بغير حيرته صادقا فى التعبير عن نفسه.
اقترحت عليه أن يكتب فانتازيا يلتقى فيها «عبدالناصر» ويحاوره فيما يحيره.
«لا أعرف الحقيقة كيف تدافع ولكننى أسمعك.
شكرا لصبرك وسعة صدرك.. والمسألة يا سيدى ببساطة أننى لا أؤمن بالشىء ونقيضه لأن الحقيقة لها وجهان.. فأنا مثلا لم أقل إننى احترت.. من حبى.. وكرهى لك.. أو أننى أدعيت توحدى مع مبادئك ثم أعلنت أننى ضدها.. بل الحقيقة أننى أحببت الرمز.. والفكرة.. فى عبدالناصر الثائر ضد نظم القهر الاجتماعى والتفاوت الطبقى ومجتمع النصف بالمائة.. وبطل التحرير الوطنى الذى ألهم الثوار فى إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.. وأشعل بقيادته معركة وطنية خلال حرب السويس كانت جذوة المثل والقدوة لثوار كوبا فى جبال سييرا ماستيرا فى حربهم ضد باتيستا.. وثوار الماو ماو فى إفريقيا.. وثوار الملايو فى آسيا.. هذا المثال الذى صار رمزا للتحرر الوطنى، ومقاومة الاستعمار والاستقطاب بين معسكرى الحرب الباردة.. أحببتك وما زلت.
ولكننى لا أستطيع أن أفعل نفس الشىء، أو أحمل نفس الحب لتجربة القضاء على الليبرالية وقولبة الشعب المصرى فيما يشبه الطابور العسكرى.. وأنكر حجج الشرعية الثورية التى قد تبرر البدايات، ولكنها لا تصلح أن تكون إذنا مفتوحا تعلق به الخلف وخلف الخلف.. لأن الشعب المصرى فقد حريته فى مراقبة حكامه عبر قرارين من أخطر القرارات التى أخذتها يا سيدى.. هما إلغاء الأحزاب ثم تأميم الصحافة.. لأن هذا حدث فقد ترتب عليه حالة العقم والجفاف والتصلب الذى أصاب قدرات الشعب المصرى على الحراك السياسى.. خمسون عاما يا سيدى ضاعت فيها معالم الطريق التى يسلكها المواطن المصرى ليشارك فى حكم نفسه، ويمارس العمل السياسى بكامل الحرية.
هذان هما وجها الحقيقة.. فهل ما زلت ترى أننى أمارس السُفسطائية؟ هل تعتقد أننى ارتكب نوعا من ازدواجية الرأى والمعايير حين أكرر لك الآن.. أننى أحبك.. لكننى لست مع دراويشك كصاحب قرار سياسى وحاكم فرد تطغى جاذبيته وكاريزميته على كل ما ارتكب باسمه من أخطاء؟
هز الزعيم رأسه.. وطل فى صوته رنين مرارة غير خافية.
ربما كان لك منطقك.. ولكننى أعجب له.. ولا أتخيل أن هذا يمكن أن يكون حصاد التجربة الوحيد.
لم أقل هذا يا ريس.. ولم أدع أو يدع غيرى أنك لم تترك غير الأخطاء... ولولا أن كلمة إنجازات صارت مكروهة لدى عموم المصريين لكثرة استخدامها بالكذب.. لبقيت أعدد ما بقى من إنجازاتك وهى كثيرة.. وأهم ما فيها درس الكرامة.. لقد أثبتت ما صار راسخا فى وجداننا جميعا من أن ثقل الوطن واحترامه لن يحققهما إلا من كان حكمه كله تلخصه كلمة الكرامة!.. الأمر الذى نفتقده كلما رأينا حجم مصر يتضاءل ودورها يبهت ويشحب.. وتبدو وكأنها ملطشة للقريب والبعيد.. فنردد على ألسنتنا تلك العبارة التى اقتنصناها من قصيدة شعر لنرفعها شعارا للمرحلة.
وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر!
ونحن نفتقدك كثيرا يا ريس.
«ابتسم فى تسامح.. وهز رأسه.. ثم تحرك مبتعدا.. صحت فى إثره مناديا.. ولكنه لم يلتفت..
وثقلت أجفانى لأستغرق فى نوم عميق».
كان ذلك نصا تخيليا لمبدع كبير لا ينازع مكانته أحد فى الرواية التلفزيونية حمل نقدا واضحا للتجربة الناصرية على صفحات جريدة تنتمى إليها.
فى النص الكاشف تبدت حيرته بين مشروعها ونظامها.