المفاجأة التى قدمها حزب النور بإعلان تأييده لمرشح رئاسى غير الذى يدعمه الإخوان تمثل محطة مهمة لا فى الانتخابات الرئاسية فحسب، وإنما فى مجمل المشهد السياسى والثورى، وهو ما يستأهل النظر فى أسباب القرار، ويوجب التعامل معه بإيجابية تساهم فى تغيير التحالفات السياسية ودفع مسيرة الثورة للأمام.
والاختلافات بين الحزب والدكتور أبوالفتوح فى الرؤية السياسية والتصورات الدينية ترجح أن قرار تأييده لم يكن أيديولوجيا، وإنما كان متعلقا بالمصلحة السياسية والتنظيمية للحزب الذى يزيد إدراك قياداته لواقعهم نتيجة دمجهم فى العملية السياسية، فالفوز بما يزيد على خمس مقاعد البرلمان دفع بالحزب حديث النشأة إلى قلب المشهد السياسى، وجعله أكثر احتكاكا بالمشكلات الحالة، وأكثر قربا وتأثيرا فى السلطة، بعدما كانت قياداته قبل سنة منعزلة عن الواقع السياسى مكتفية بخطابات المساجد والفتاوى.
وهذه التطورات أثرت على الحزب من جهات عدة، أولاها أن مشاركته فى العملية السياسية تمنعه من الوقوف عند تحريم بعض جزئياتها، وتفرض عليه تخطى ذلك بتقديم البدائل، وقد اضطر الحزب خلال الأشهر الماضية للتذرع بـ(الضرورة) أكثر من مرة لتمرير مواقف تخالف المستقر فى فكر الدعوة السلفية، بدءا من المشاركة فى العملية الديمقراطية ومرورا بقرار إنشاء حزب سياسى ووصولا لترشيح سيدات على قوائم الحزب فى الانتخابات البرلمانية، غير أن هذه المواقف العملية لا تزال بلا سند نظرى، وهو ما أثار بعض التحفظات فى الأوساط السلفية.
والتواجد فى قلب الحركة السياسية جعل قيادة الحزب تدرك أن مشروعها السياسى لم ينضج بعد، لا من حيث الرؤية الشرعية فحسب، وإنما من حيث التصورات السياسية كذلك، فالتعامل مع المشكلات الحالة ــ بدءا من أزمة البوتاجاز ووصولا للمظاهرات المتتالية ــ جعل أعضاء الحزب يدركون أن الشريعة ــ مع ركنيتها فى أى برنامج سياسى يقبلونه ــ ليست كافية، بل ثمة مساحة مدنية واسعة هى مساحة (المصالح المرسلة) يترتب الحكم الشرعى فيها على المصلحة، ومعرفة المصلحة مردها للعلوم الاجتماعية وفيها نظريات متباينة، فصار على الحزب تحديد الوجهة السياسية له بناء على انحيازاته فى قراءة الواقع ومناهج التغيير، وهى انحيازات تنتج عادة عن الخلفيات الاجتماعية والتعليمية والخبرات، وهذه شديدة التنوع (بل وربما التناقض) فى الحزب الذى قام على قاسم مشترك أعظم (هو المنهج السلفى) ليست له علاقة مباشرة بهذه المسألة.
ثم إن اقتراب الحزب من قلب المشهد السياسى زاد من إدراكه لضرورة بناء تحالفات واسعة، وتحديد الأولويات للتمكن من تقديم التنازلات فى القضايا المسبوقة فى الأولوية، وذلك لتمرير بعض ما يريده (كونه لا يمتلك أغلبية)، ولاستمرار بقائه (وإلا لظل هامشيا غير مؤثر فى صناعة القرار ومن ثم يندثر تدريجيا)، ومن أجل المصلحة الوطنية (المتمثلة فى حاجة كل الأطراف السياسية العمل المشترك من أجل استعادة السيادة للشعب، أو على الأقل للجهات المنتخبة ديمقراطيا)، وتوازى مع ذلك استشعار الحزب خطر سيطرة فصيل واحد على المشهد، والتى قد تؤدى ــ فى ظل غياب ثقافة المحاسبة والنقد الداخلى فى الأحزاب ــ لاستبداد جديد.
وتقديرى أن هذه التطورات مجتمعة ساهمت ــ إضافة لأسباب أخرى تتعلق بالاختيارات المتاحة ــ فى دفع حزب النور باتجاه دعم أبوالفتوح، فالقيادات أدركت حاجتها للوقت لتطوير مشروعها السياسى واكتساب المزيد من الخبرات قبل طرح رئيس ينتمى للتيار السلفى، وأولوياتها فى تلك المرحلة هى ضمان مساحة من الحرية المجتمعية تستطيع من خلالها الدعوة لأفكارها، ومساحة من العمل السياسى تستطيع من خلالها تطوير مشروعها، وهم يخشون من استئثار الإخوان بالمشهد السياسى لو فاز مرشحهم، ويريدون مع ذلك رئيسا يقدم مشروعا ينطلق من الهوية الإسلامية بمفهومها العام الواسع، وتكون له فرصة حقيقية فى الفوز لئلا يتعرضوا لاهتزازات قوية قد تؤدى إليها هزيمة انتخابية كبيرة، كما أنهم يريدون دعم مرشح يحظى بقبول خارج التيار الإسلامى لتقليل فرض انقضاض العسكر على العملية الديمقراطية.
فالمبالغة فى الحفاوة بقرار حزب النور ــ باعتباره قرارا أيديولوجيا ــ ليست إذا فى محلها، وكذلك المبالغة فى التشكك فى اتجاهات المرشح بعد أن قرر الحزب دعمه، غير أن الذى يستحق التأمل هو تأثيرات هذا القرار على المشهد السياسى، فدعم الحزب للدكتور أبوالفتوح لا يعنى دعم التيار السلفى العريض له، كما أن ترشيح تنظيم الإخوان للدكتور مرسى لا يعنى دعم جميع المنتمين للمدرسة الإخوانية العريضة (ولا حتى التنظيم) له، الأمر الذى يعنى أن أصوات كل من طرفى المشهد الإسلامى الرئيسين (الإخوان والسلفيين) ستتوزع بين الدكتورين أبو الفتوح ومرسى، وهو أمر له دلالات بالغة الأهمية، إذ يعنى أن اتحاد التصورات الدينية عند الأفراد والجماعات لا يعنى بالضرورة اتحاد مواقفها السياسية.
وهذا التداخل بين التأييد السلفى والإخوانى لكلا المرشحين له فائدة كبيرة من جهتين، أولاهما أنه ينقل الجدل من المربع الذى أسر الثورة طيلة سنة، وهو الاصطفاف الإسلامى ــ المدنى/العلمانى (مع التحفظ على المصطلحات التى تبقى بلا مدلولات محددة) إلى مربع أكثر فائدة وهو الاصطفاف على أساس الموقف من الثورة وسيادة الشعب، والسياسة الخارجية، وهيكل الاقتصاد ودور الدولة فى تحقيق العدالة الاجتماعية، ومساحة وشكل تدخل الدولة فى تشكيل وضبط المجال العام، وغيرها من القضايا التى يظهر فيها التباين واضحا بين مشروعى المرشحين.
ثانية الفوائد انتقال القرار من التنظيمات الكبرى للأفراد، فالاطمئنان للهوية ــ القاسم المشترك الأعظم للتيارين والتنظيمين ــ وتوزع التأييد بين المرشحين من شأنه إعطاء خيارات أوسع للأفراد، قد تدفع عددا من السلفيين لمخالفة القرار التنظيمى والعكس، ولا شك أن ثمة عقبات تحول دون التمكين الكامل للأفراد، منها الإرث التنظيمى وهيمنة مفاهيم كالثقة والجندية والثقافة الأبوية بدرجات متفاوتة على التيارين، إلا أن هذا التنوع سيكون من شأنه المساهمة فى تفكيك بعض من هذه المفاهيم وإعادة تعريفها، خصوصا فى ظل حالة السيولة السياسية التى تظهر ــ مرة بعد أخرى ــ فاعلية المبادرة الفردية بشكل يفوق أحيانا فاعلية التنظيمات، الأمر الذى من شأنه الإعلاء من قيمة التشاركية فى هذه التنظيمات وزيادة هامش الديمقراطية فيها.
إن تنوع التأييد الإسلامى بين أكثر من مرشح من شأنه إظهار تنوع الحركة الإسلامية، وإخراجها من القوالب التى فرضت عليها فى زمن القمع إلى فضاءات أوسع وأكثر رحابة، ولعلى شريعتى كتيب قيم اسمه (الدين فى مواجهة الدين)، يذهب فيه إلى أن الرؤية السياسية النابعة من الدين ليست واحدة، وأن ثمة مشروعا ينتسب للإسلام انحيازه لذوى النفوذ، وآخر انحيازه للمستضعفين، والمشهد الإسلامى فى مصر تهيمن عليه قوى يمينية لأسباب لا يتسع المقام لمناقشتها، والتنافس بين الإسلاميين ــ أفرادا وتنظيمات ــ فى الانتخابات الرئاسية من شأنه إيجاد مساحة أوسع للمشروع اليسارى بينهم، وهو أمر يمتد أثره لما بعد الانتخابات، ويؤثر إيجابا على مسيرة الثورة وبناء الوطن.