أتابع بمزيج من التقدير والدهشة حملة طرق الأبواب، التى يقودها الزميل محمد الجارحى لبناء مستشفى ٢٥ يناير الخيرى فى بلدته بمحافظة الشرقية. ذلك أنه يبدو مستغربا أن ينهض صحفى مثله بتلك المهمة الجريئة من خلال مركز للشباب نشأ بعد ثورة يناير فى إحدى قرى المحافظة (الشبراوين مسقط رأسه). وقد كان مفاجئا لى أن وجدته يكرس وقته وجهده لإنجاح المشروع. بحيث تتحول المهمة إلى رسالة نضالية دعته إلى ابتداع ما لا حصر له من الأساليب والحيل. مكنته من أن يشترى الأرض ويقيم البناء ويوفر للمستشفى الخيرى حاجته من التخصصات والتجهيزات ولايزال نضاله مستمرا لإكمال المهمة. أدرى أن فى مصر خيرين كثرا تبنوا أفكارا من ذلك القبيل. واعتمدوا فيها على قدراتهم التمويلية أو شبكات اتصالاتهم. لكنى لا أعرف أحدا بدأ العملية من الصفر، بغير قدرة على التمويل أو حظ من النفوذ، ومع ذلك خاض المغامرة بشجاعة نادرة وحولها إلى عملية نضالية أصر على إنجازها، معتمدا على حماس الشباب وحيويته.
استغرب أن أجده يذرع المدن ويجوب الشوارع تحت قيظ الشمس والحرارة تجاوزت أربعين درجة، لكى يعلن على الملأ أنه فى هذا الحى أو ذاك، وأنه رهن الإشارة فى أى وقت، إذ ما على أى راغب فى التبرع إلا أن يوصل صوته، كى يجده على بابه شاكرا وممتنا. قرأت أنه ابتكر فكرة «تاكسى الخير» المكرس للتحصيل. وأنه من خلال ذلك التاكسى يتنقل بين المدن والأحياء ليطرق أبواب الخيرين حيث وجدوا.
أيا كانت ظروفه الخاصة التى شجعته على تلك المغامرة. فالثابت أن المبادرة من أصداء ثورة ٢٥ يناير التى حمل المشروع اسمها ونسب إليها المستشفى. إذ المعلوم أن الثورة التى كانت استجابة لحلم التغيير والشوق إلى العدل السياسى والاجتماعى أحيت طاقات الإبداع وتطلعاته فى مختلف الاتجاهات. وأهم ما حققته آنذاك أنها استدعت المجتمع من عزوفه وعزلته، وأشركته فى إسقاط نظام مبارك ومن ثم أقنعته بأنه أقوى مما يظن وأنه قادر عن أن يصنع مستقبله ويبنى صرح نهضته. وهو ما فجر فى أوصال شرائح عريضة طاقات الحيوية والعطاء الكامنة.التى تم تجاهلها وتقلص حضورها بفعل ممارسات عقود خلت. فرض على المجتمع خلالها أن يقتصر دوره على الاستقبال والامتثال. وحين تراجع دوره فى المشاركة السياسية فإن دوره فى التنمية تراجع بذات القدر. لذلك لم يكن غريبا بعد ثورة ١٩٥٢ أن تحل الأحزاب السياسية وأن يتزامن ذلك مع حل الوقف الأهلى وإلغاء الأوقاف على غير الخيرات. وبذلك حرم الوطن من مصدر وفير للعطاء منع المجتمع من النهوض به وعجزت سلطة الدولة عن الوفاء باستحقاقاته.
أهمية المستشفى التى استدعت هذا الاستطراد تكمن فى ذاته وفى رمزيته. أعنى أنه يوفر خدمة جليلة لأبناء مصر الأخرى، البعيدين عن العين وعن القلب. الذين أهملتهم الدولة ليس فى العلاج فقط ولكن أيضا فى التعليم والإسكان والخدمات الحياتية الأخرى، وبإقامة المشروع بسواعد وعلى أكتاف شباب الشبراوين فإنهم أعلنوا تمردهم على ذلك التجاهل ورفضهم الاستسلام لاستمراره، وعبروا عن إصرارهم على الدفاع عن حقهم فى الحياة الكريمة.
من ناحية ثانية، فإن إقامة مستشفى ٢٥ يناير توجه رسالة إلى الملأ تجسد بها بعض أحلام الثورة وتطلعاتها، التى يحاول البعض فى زماننا طمسها وتشويهها، فى حملات أخشى أن يؤدى استمرارها بمضى الوقت لأن يصبح المستشفى هو الأثر الوحيد الباقى من ثورة ٢٥ يناير.
لا أستطيع أن أغمط مبادرات تنموية أخرى حقها، لأن الأجواء المواتية التى أشاعتها ثورة يناير حركت المياه الراكدة فى أرجاء مصر. ولست الوحيد الذى صادف أناسا فى تلك الفترة الزاهرة شغل كل واحد منهم فى داخل مصر أو خارجها بما يستطيع أن يقدمه لبلده. ولأن القرى المصرية كانت الأكثر حظا من الإهمال والقصور، فقد امتلأت ساحاتها بالمبادرات وتنافس مواطنوها على العطاء. ويضيق المجال عن ذكر تلك المبادرات التى تفوق الحصر، لكن الشاهد أنه حين هبت الرياح المعاكسة فإن الحماس لتلك المبادرات فتر بمضى الوقت وظلت حملة مستشفى ٢٥ يناير وحملات أخرى قليلة عملا استثنائيا يشهد للروح التى كانت.
إلى جانب الذين أطاحت بهم الرياح المعاكسة، فلايزال فى مصر آخرون مجهولون لم يتوقف نضالهم فى الدفاع عما تبقى من أحلام ثورة يناير. كما أن هناك أناسا صمدوا أمام الضغوط وحملات التجريح والتشويه وواصلوا رسالتهم ــ وشباب الشبراوين وعلى رأسهم محمد الجارحى من هؤلاء، إلا أنهم تميزوا بأمرين أولهما أنهم حولوا مهمتهم إلى عملية فدائية استبسلوا فى محاولة إنجازها وكانت حملة طرق الأبواب فى مقدمة خططها الناجحة، أما ثانيهما فكان توظيفهم لإمكانيات وأساليب السوشيال ميديا فى التنبيه والاستنفار وتيسير المشاركة والتبرع على كل راغب مهما كان مكانه أو ظروفه.
على كثرة إعلانات التبرع للمشروعات الخيرية التى تبثها قنوات التليفزيون فقد آثر القائمون على مشروع مستشفى ٢٥ يناير أن يوفروا مصروفات الدعاية مكتفين بمواقع التواصل، وأرجو أن يعد ما كتبته إعلانا من جانبى أعبر فيه عن تضامنى معهم وتشجيعى لهم وأملى فى أن يصبحوا قدوة لغيرهم وأملى فى أن يصبحوا قدوة لغيرهم.