المتابع للحياة السياسية فى مصر بات معتادا على «المؤامرة» كتفسير للتطورات السياسية التى تمرّ بها البلاد ولما تواجهه هى والمنطقة العربية من عنف واضطرابات ونزاعات.
والواقع هو أن حديث «المؤامرة» ليس وقفا على مصر والمنطقة، كما أنه ليس جديدا عليهما. عندما قامت الثورة البلشفية فى روسيا فى السنة 1917، اكتشف الثوار وكشفوا عن اتفاقيات سرية كانت روسيا القيصرية قد دخلت فيها طرفا مهما أو غير مهم، ومنها اتفاقية سايكس ـ بيكو التى عقدها الدبلوماسيان البريطانى مارك سايكس والفرنسى جورج بيكو فى سنة 1916 لترث بها بلداهما الدولة العثمانية وتقتسمان بلاد الشام والعراق، بدون علم سكان هذه البلاد. وارتبط بهذه القسمة الاستيلاء على فلسطين والتنفيذ التدريجى لمشروع الصهيونية فيها، كما أنه ليس بعيدا عنها النكوص عن الوفاء بالوعد الذى قطعه المندوب السامى البريطانى فى القاهرة هنرى ماكماهون للشريف حسين، حاكم مكّة، فى سنة 1915 بالاعتراف باستقلال بلاد العرب موحدة عن تركيا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبدلا من ذلك إخضاع بلاد الشام والعراق المقسمة لنظام الانتداب الذى نشأ مع عصبة الأمم فى سنة 1919. اتفاقية سايكس ـ بيكو مؤامرة لأنها تمت فى الخفاء وبقيت سرية، ثم ولأنها أبرمت فى حق من كان لا يملك من أمره حولا ولا قوة.
غير أن «المؤامرة» لا تصلح فى تفسير ما يلحق بالدول المستقلة ذات السيادة. الدولة فى التصرّف فى شئونها الداخلية تمارس حقوق السيادة على إقليمها. ليس سهلا ممارسة حقوق السيادة كاملة على كل إقليم أى بلد وعلى كل الأنشطة والسكان فيه، بل إنه ليس متصورا وجود بلد تمارس حقوق السيادة كاملة وكل الوقت على كل إقليمها وعلى جميع الناس والأنشطة فيها. السياسة الناجحة هى التى تمكن بلدا ما من ممارسة أكبر قدر من حقوق السيادة. والدولة ذات السيادة، فى علاقاتها الخارجية، تصنع السياسات وتطبقها فى حق الدول الأخرى حماية لحقوق سيادتها وتنمية لمصالحها. والدول الأخرى تمارس الشىء نفسه، فهى تصنع السياسات وتطبقها فى حق الدولة الأولى للأغراض نفسها. يختلف منظرو العلاقات الدولية فيما إذا كانت حصيلة العلاقات بين الدول صفرية، أى فيما إذا كان ما تحققه دولة ما هو بالضرورة خصما من حقوق ومصالح الدولة الأخرى التى تدخل فى علاقات معها، أم أن حصيلة العلاقات بين الدول هى إضافة إلى رصيدها كلها بحيث تستفيد جميعا من هذه العلاقات. دعنا من هذا الخلاف، ولنكتف بالقول بأن السياسة الخارجية الناجحة هى التى تكفل للبلد المعنى ممارسة أكبر قدر من حقوقها فى السيادة وأفضل تنمية لمصالحها.
•••
لنفترض أن بلدا ما تمكر ببلد آخر، وليكن هذا البلد مصر. هل فى حديث «المؤامرة» تحليل للسياسات التى صاغها البلد الأول وطبقها مكرا بمصر، وهل فيه استعراض للأسباب الكامنة فى مصر والتى مكنّت البلد الماكر من النجاح ولو المؤقت فيما ابتغاه؟ هل يساعد هذا الحديث فى التصدى للسياسات المناوئة للبلد الأول وفى علاج أسباب الضعف لتصبح مصر حصنا منيعا، ماديا ومعنويا، فى وجه من يريد المكر بها؟ أليس فى هذا الحديث تعمية؟ هل يمكن العلاج بدون تشخيص؟ حديث «المؤامرة» ينتهى فى واقع الأمر إلى اعتبار أن وقائع السياسة هى بمثابة الكوارث الطبيعية التى لا يمكن التحسب لها أو الغيبيات التى تعدم التفسير العقلانى. وفى حديث «المؤامرة» تنصّل عن تفحص مسئولياتنا عن سياساتنا، وعن تبيّن ثغراتها وعيوبها. فإن أراد الناطق بهذا الحديث أن يتفادى إعطاء الانطباع بأنه يتحدث عن كارثة طبيعية أو غيبية من الغيبيات فإنه يقع فى فخاخ من نصبه هو. خذ ذلك المتحدث الحكومى الذى نسب علنا إلى وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة أشياء لم ترد فى مذكراتها ليبرهن على ضلوع الولايات المتحدة بشكل أو بآخر فى ارتكاب مأساة الفرافرة. فى عصر تداول المعلومات الحالى سرعان ما انكشف زيف ادعاءات المتحدث. مدعاة الدهشة هى أن هذا المتحدث لم ينتبه إلى أن الحكومة المصرية استقبلت وزير الخارجية الأمريكية الحالى مرتين فى نفس الأسبوع الذى تحدث فيه للتباحث معه بشأن الحرب الجارية فى غزة. هل كانت الحكومة المصرية تستقبل وزير خارجية بلد تعلم أنه ساهم فى جريمة قتل جنودها؟ حديث «المؤامرة» يضيّع قيمة الكلام، ويبدد الثقة فيه، ويحيد بالنظر عن أسباب العلل لينفق الوقت والجهد فى توافه الأمور.
•••
خذ مثالا ثانيا على حديث «المؤامرة» من خلط الدين بالسياسة. ربما أرادت دولة ما أو دول عدة لمصر والمنطقة أن تحكمها حركات تخلط الدين بالسياسة تحت تأثير المناظير الاستشراقية لبلداننا. هل هذه مؤامرة؟ هذه سياسة تواجه بسياسات داخلية وخارجية لإبطال مفعولها. هل نحن وضعنا هذه السياسات أم أننا اكتفينا بالتنديد «بالمؤامرة»؟! ثم ألم نشارك نحن وغيرنا فى منطقتنا فى إنجاح هذه «المؤامرة»؟ ألم نخلط الدين بالسياسة، ومازلنا، فى دساتيرنا، وفى مدارسنا، وفى مساجدنا، وفى وسائط اتصالنا؟ وألم تقم تلك الرابطة فى البلد العربى الشقيق ببث الفكر السلفى المتزمت الذى يستبدل الدين بالسياسة فى العالم الإسلامى ونحن مرتاحون كل الراحة إلى هذه الرابطة؟ والشىء بالشىء يذكر، ألم يؤد مثل هذا الفكر إلى ازدراء ديانة ملايين المواطنين، ونحن سكتنا لعشرات السنين على هذا الازدراء؟ والشىء بالشىء يذكر مرة ثانية، ألم يؤد إعلاء شأن القيم المتزمتة إلى سيادة الفكر المحافظ بل والرجعى وإلى ازدراء المرأة والفتاة وجعلهما موضوعين لإرادة الرجل ورغبته بدلا من أن تكونا فاعلتين إلى جانبه؟ وألم يؤد الفصل بين الجنسين فى المدارس والجامعات، وفى وسائل المواصلات، وفى الطوابير أمام مكاتب الاقتراع، إن لم يكن قانونا فواقعا، إلى أن أصبح الفتيان والفتيات غريبين كلا عن الآخر، ونحن نستحسن ذلك باعتبار أنه من الفضيلة؟ أنستغرب بعد ذلك أن يتحرش الأقوى جسمانيا «بموضوع إرادته»، الغريبة عنه، التى لا يعترف بأن لها إرادة غير رغبته؟
حديث «المؤامرة» بؤس وفيه هوان. آن لنا أن نتحمل المسئولية وأن نثق فى قدرتنا على الوفاء بها.