بعد أسابيع عديدة من النقاشات بشأن المفاوضات بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولى، والتساؤلات عن مبلغ القرض محل التفاوض وشروط الحصول عليه، ظهرت الرؤية نسبيا يوم الأربعاء الماضى 30 أغسطس. ذاعت أنباء بأن مبلغ القرض هو ثلاثة مليارات دولار وهو مبلغ منخفض للغاية إذا قيس بالاستحقاقات بالعملة الأجنبية على مصر حتى نهاية العام وفى العام القادم 2023.
هذه الاستحقاقات تمثل عموما خدمة الدين والديون قصيرة الأجل التى تحل آجال سدادها. المتابعون المهتمون بالمأزق الذى تواجهه مصر والمعنيون به يعلمون حجم هذه الاستحقاقات فلا داعى لذكرها. رغم ارتفاعها الهائل، فالمشكلة ليست فيها، بل فى ضعف الاقتصاد وفى السياسات المالية والاستثمارية والنقدية التى أدت إليها، من جانب، وفى الآثار التى رتبتها هذه السياسات على النشاط الاقتصادى وعلى مستويات معيشة المواطنين، وهو الأهم، من جانب آخر.
لا نعرف أسباب تواضع مبلغ القرض الذى ستحصل عليه الحكومة المصرية من الصندوق ولا العثرات التى واجهت المفاوضات بين الطرفين. تواضع القرض هو تواضع لنتيجة المفاوضات. يمكن أن نتصور أن المفاوضات انصبت على الموضوعات المذكورة فى تقرير بعثة الصندوق لتقويم استخدام الحكومة للقرض البالغ 5,2 مليار دولار الذى حصلت عليه فى سنة 2020 لمواجهة آثار الوباء العالمى.
فى البيان الصحفى المنشور فى نهاية شهر يوليو الماضى عن هذا التقويم ورد أن المديرين التنفيذيين للصندوق عبروا عن رضائهم على استخدام الحكومة المصرية للقرض وإن رأوا أن مرونة أكبر فى سعر الصرف كانت مطلوبة «لتفادى تراكم العجز الخارجى ولتيسير استيعاب الصدمات». إلا أن المديرين التنفيذيين وجدوا أن مصر مازالت فى موقف هش نتيجة لارتفاع عبء الدين العام ومتطلبات التمويل المرتفعة، وهم شددوا على ضرورة تحقيق تقدم حاسم فى الإصلاحات المالية والبنيوية، ومنها دفع تنمية القطاع الخاص وتخفيض دور الدولة، وعلى تحسين الحوكمة، وعلى تعزيز القدرة على استيعاب الصدمات. ثم جاء فى ختام البيان أن هذه الاعتبارات التى توصل إليها التقويم هى التى ينبغى أن تحكم «المحادثات الجارية بشأن علاقة الصندوق المقبلة مع مصر».
• • •
فى غيبة المعلومات يكمن تصور أن الدولة فى مصر استطاعت قبول بعض الاعتبارات المذكورة ولم يمكنها قبول اعتبارات أخرى. واضح من التطورات فى الأسابيع الأخيرة أن الدولة قبلت بإدخال قدر كبير من المرونة على سعر الصرف وإن لم يصل حتى الآن إلى التعويم الكامل وعلى دفعة واحدة للجنيه المصرى. ليس معروفا ما هو المقصود بالإصلاحات المالية فى حالتنا الراهنة بالذات ولكن من الجلى أنه لا يوجد مجال للحد من الإنفاق العام على السياسات الاجتماعية أو على ما تبقى من دعم للخبز أو الطاقة، خاصة فى ظل ما ترتبه مرونة سعر الصرف من آثار على التضخم والأسعار.
تحدث البعض عن تخفيض الإنفاق العام على الوظيفة العمومية. هذا غير ممكن. واقع الأمر أن تضخم الوظيفة العمومية فى مصر أسطورة كدنا نصدقها من فرط تكرارها. العجز فى المعلمين وفى الأطباء فى المستشفيات الحكومية معروف للكافة. فى مصر 5,5 مليون موظف يخدمون 104 ملايين مواطن بواقع 52 موظفا لكل ألف مواطن. فى فرنسا 5,7 مليون موظف يخدمون 67 مليون مواطن فى سنة 2020. إحصائيات منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية تبين أنه فى سنة 2015، نسبة إلى كل ألف مواطن كان عدد الموظفين يبلغ 159 فى النرويج، و142 فى الدنمارك، و100 فى كندا، و89 فى فرنسا، و70 فى الولايات المتحدة.
هذه الأرقام بليغة، تعفى المحلل من أى تعليق.
هل يمكن زيادة الإيرادات العامة؟ نعم ولا. نعم مشروطة برفع كفاءة التحصيل الضريبى من أصحاب المهن الحرة، وبفرض الضرائب على الأنشطة الاقتصادية المستثناة منها وتحصيلها. هذان شرطان ليس سهلا تحقيقهما، على الأقل لمواجهة أزمة حالة. ولا، لأن كاهل المواطنين والمنشآت يئن من وطأة الضرائب المباشرة وغير المباشرة، ومن الرسوم التى لا تمل الدولة من فرضها ورفع مقاديرها عليهم. ثم أن استخلاص الدولة لنفسها نسبا مرتفعة من دخول المواطنين ليس فى صالح النشاط الاقتصادى، وهو ينتهى بأن تنخفض حصيلة الضرائب على هذا النشاط.
يمكن مهاجمة صندوق النقد الدولى على ما يطالب به الدولة فى مصر، وهو شبيه بما يطالب وطالب به دولا أخرى عديدة من العالم النامى بل والمتقدم. صندوق النقد الدولى موجود لضبط عمل النظام الرأسمالى العالمى ولتأمين استمراريته، كما يراهما القائمون على هذا النظام وهم الاقتصادات الكبرى، وأصحاب المصالح فيها وفيما بينها.
أوجه الاعتراض على عمل هذا النظام، وعلى عمل نظامه المالى الفرعى وعلى دور الصندوق فيه، عديدة ولكن هذه مسألة أخرى أكبر كثيرا من التفاوض بشأن قرض محدود مع مصر أو غيرها.
ثم أنه ليس معروفا عن مصر الرسمية أنها اعترضت على مبادئ عمل الصندوق والنظام المالى العالمى أو على عمل مجمل الاقتصاد الرأسمالى العالمى.
• • •
كان الأجدر هو عدم اللجوء إلى الصندوق أساسا.
فى أغسطس 2016، عندما ذاع خبر التفاوض مع الصندوق بشأن القرض الذى بلغ 12 مليار دولار، وتم الاتفاق بشأنه فى نوفمبر التالى، وصاحبته إجراءات ما سمى بالإصلاح الاقتصادى، نشرت «الشروق» الغراء مقالا لكاتب هذا المقال تحت عنوان «حتى لا يذهب قرض الصندوق هباء».
الإصلاح لم يكن اقتصاديا، بل كان ماليا. وحتى الإصلاح المالى، الذى بدا لسنوات أن المراد منه تحقق، فقد تلاشى هو الآخر. بخلاف التواريخ وجمل هنا وهناك، بعد ست سنوات ينطبق مقال أغسطس 2016 على الوضع الحالى، وقد ذهب ذلك القرض هباء.المطلوب الآن هو سياسات كان ينبغى اتخاذها منذ سنة 2016 على الأقل، سياسات على المديين المتوسط والطويل، لدفع النمو الاقتصادى وتدعيم الاقتصاد وتحقيق التنمية، وعلى المدى القصير، للتصدى للمشكلة الخانقة الراهنة.
السياسات على الأمدية الثلاثة ستكون متداخلة. سياسات صناعية فى عدد من القطاعات الاقتصادية ضرورية تماما. السياسة الصناعية هى مجموع الإجراءات الرامية إلى تعزيز أنشطة اقتصادية محددة وتشجيع التغيرات الهيكلية فيها.
السياسة الصناعية لا تتعلق بالصناعة فى حد ذاتها وحدها وإنما هى تنطبق أيضا على الخدمات وعلى الزراعة غير التقليدية. فى السياسة الصناعية الإجراءات متكاملة فى مجالات الائتمان، والتشغيل، والمعرفة، والمنتجات، مع تحديد الأولويات والأهداف، وأدوات التدخل، والمسئوليات المؤسسية. السياسات الصناعية هى السبيل إلى تحقيق النمو الاقتصادى وتدعيم الاقتصاد وتلبية الطلب فى السوق المحلية وتوسيع دائرة الأسواق الخارجية. فى غياب سياسة صناعية معتبرة، ننظر مثلا إلى أدائنا فى صادرات الملابس، ومصر سباقة بين البلدان النامية فى صناعتها وصناعة النسيج، وهما صناعتان بسيطتان، بلغ نصيب مصر من صادرات الملابس فى العالم فى سنة 2019 %0,33 قيمتها 3,5 مليار دولار. فى نفس السنة كان نصيب فيتنام %6 من الصادرات العالمية بلغت قيمتها 63 مليار دولار.
للتذكرة كانت فيتنام فى حرب مع الولايات المتحدة حتى سنة 1975، بينما دشنت مصر سياسة الانفتاح الاقتصادى فى سنة 1974. نحن لسنا فقط فى مواجهة مشكلة بل مسألة اقتصادية ممتدة.
فى سنة 2019، بلغت قيمة صادرات بنجلاديش من الملابس 34,1 مليار دولار بارتفاع قدره %58,6 عن 2013 عندما كانت قيمة الصادرات 21,5 مليار. لاحظ أن هذا الارتفاع حدث خلال ست سنوات هى بالضبط نفس طول الفترة الفاصلة بين «الإصلاح الاقتصادى» وقرض الصندوق لمصر فى سنة 2016، والوقت الحالى. والسياسة الصناعية لا تقتصر بالطبع على الملابس ذات القيمة المضافة المنخفضة عموما بل ينبغى أن تمتد إلى أفرع أخرى للنشاط مثل الإلكترونيات، والبرمجيات، والصناعات الكيماوية، والسياحة. ومضمون السياسة الصناعية فى هذه الأفرع لا بد أن يتباين حسب طبيعة كل منها.
على المدى القصير، إضافة إلى إيداعاتها فى البنك المركزى، فالحديث دائر عن شراء دول خليجية لأصول مصرية بعملات أجنبية تساعد مصر على الوفاء بالمستحق عليها.
دول الخليج مشكورة على أنها تخف للمساعدة. ومن حق هذه الدول أو القطاعات الخاصة فيها أن تتحقق من أصول وميزانيات ومديونيات وجدوى المنشآت التى تشتريها. هذه حقوق المشترين. أما بعد، فدعك من الأسى على ضياع أصول لها قيمتها الاقتصادية والرمزية، ولكن اللهفة البادية على بيع أصول لهذه الدولة أو تلك أو ثالثتهما تخل بالتوازن بين البائع والمشترى، وتضع الأخير فى الموقف الأقوى فى تحديد شروط البيع والشراء.
بالرغم من ضائقتها الحالية ومسألتها الاقتصادية الأقدم، فإن مصر لا تعدم أوراقا للمساومة، وأولها السوق المصرية. حتى مع انخفاض متوسط القوة الشرائية للفرد فى مصر، فإن حجم السوق المصرية كبير نسبيا ويبشر بعائدات مرتفعة على المستحوذين على الأصول المصرية. الأهم من ذلك أن حجم السوق ينبغى أن تستخدمه الدولة كحافز لجذب الاستثمارات الجديدة التى تضيف أنشطة ومنشآت وفرصا للعمل بدلا من أن تكتفى بأن يحل ملاك محل آخرين بصرف النظر عن جنسياتهم. غير أن جذب الاستثمارات الجديدة فى الأنشطة الإنتاجية المنشئة لفرص العمل والإيرادات للميزانية وللميزان التجارى يحتاج هو نفسه لسياسات صناعية جادة مسبقة، وهو يستدعى ترتيبا لأولويات الإنفاق العام يشترك فى صياغته المواطنون ومنظماتهم الوسيطة، فيطمئن بذلك المستثمرون إلى واقعية الأولويات وسلامتها، وإلى قابلية الاستمرار فى العمل بها.
عامل جذب آخر للاستثمارات هو الاتفاقات الاقتصادية والتجارية التى أبرمتها مصر، مثل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبى التى تفتح الأسواق الأوروبية أمام المنتجات المصنوعة فى مصر، بدون قيود كمية أو رسوم جمركية. لننظر كيف استفادت المغرب من اتفاقية شبيهة وأقامت من أجلها منطقة صناعية كبرى فى ميناء طنجة.
مصر فتحت سوقها أمام الإنتاج الأوروبى دون أن ينفذ إنتاجها هى بأى قيمة معقولة إلى الأسواق الأوروبية. أمثلة أخرى هى اتفاقية السوق المشتركة للشرق والجنوب الإفريقى (كوميسا)، ومن بعدها الاتفاقية الثلاثية بين كوميسا، وجماعة شرق إفريقيا، وجماعة تنمية الجنوب الإفريقى الموقعة فى شرم الشيخ فى سنة 2015، وأخيرا اتفاقية السوق الحرة القارية الإفريقية، كلها تفتح السوق الإفريقية، وإن بدرجات متفاوتة فى بعض مناطق القارة حتى الآن، أمام المصنوعات والخدمات المصرية وهى تعد بعوائد مرتفعة على الاستثمار فيها. قوة العمل المصرية كبيرة الحجم نسبيا إن تلقت التعليم والتدريب الجيدين هى رصيد لجذب الاستثمار وليست بالضرورة عبئا على الدولة.
• • •
المسألة الاقتصادية فى مصر امتدت فى الزمن ولكنها ككل مسألة قابلة للحل.
مضمون الحل مسألة اقتصادية فنية. غير أن الإقدام على الحل قرارٌ سياسى. أما الاختيار بين البدائل الفنية والتوفيق بينها فيتداخل فيهما الاقتصادى والسياسى.
وعليه، إن كان للمسألة الاقتصادية أن تحل فلا بد من إصلاح سياسى يفك القيود، ويفسح المجال للخيال والمبادرة، وللعمل الجماعى والفردى.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة