وسط دخان وغبار المعارك فى شوارع قلب القاهرة التى أصبحت تعيد إلى الأذهان صورة شوارع مدن الضفة الغربية المحتلة بأسوارها العازلة وأسلاكها الشائكة ووسط الصخب الإعلامى المفتعل لمعركة انتخابية هى فى معظمها من طرف واحد يغيب عن المشهد أى حديث جاد عن الصراع المجتمعى الذى انفجر كبركان فى 25 يناير وطوال الأيام التالية له ثم بدا وكأنه هدأ إلا من اضطرابات تعلو حدتها وتنخفض بين حين وآخر متمثلة فى الإضرابات والاعتصامات العمالية واحتجاجات الفلاحين وتظاهرات الفقراء ضد اختفاء السلع الأساسية أو ضد المنشآت الصناعية أو الخدمية التى تشكل خطرا مباشرا على حياتهم بانزراعها فى قلب مناطق سكنهم.
تتعامل السلطة الحاكمة ومن هم فى الدوائر القريبة منها مع الأزمة الاجتماعية بشكل يتجنب أولا أى مواجهة مباشرة لها. فقبل أى شىء آخر يعاد توصيف الأزمة بأنها اقتصادية فى الأساس ثم يختزل فهم هذه الأزمة الاقتصادية فى كونها أحد توابع ثورة 25 يناير وحالة الانفلات الأمنى الذى يراد لنا تصديق أنه كان ولا يزال نتيجة من نتائج الثورة. والأهم أنه يتم إبراز الاضرابات والاعتصامات العمالية ومظاهر الاحتجاج الأخرى على أنها السبب الرئيسى والأهم للأزمة الاقتصادية التى يعاد استخدامها كسبب لعدم القدرة على الاستجابة للمطالب المرفوعة من قبل العمال فى إضراباتهم!
●●●
هذا التحايل العجيب يخلق دائرة مفرغة يدور فيها كل حوار عن الأزمة الاقتصادية بالرغم من تهافته الواضح؛ فلا يمكنك أن تحول النتيجة إلى سبب ثم تدعى أنك قادر على التعامل معها فقط إن اختفت! فالقول بأنه على العمال أن يعودوا إلى العمل حتى تستجاب مطالبهم يفترض أنهم كانوا فى إضراب طيلة حياتهم وإلا فلماذا لم يستجب الى مطالبهم فى أى وقت سابق لإضرابهم؟
يحاول البعض أن يقدم طرحا بديلا عن هذا الطرح الواضح السذاجة فيتحدث عن الاستقرار الضرورى لجذب الاستثمارات الخارجية كحل ضرورى للأزمة الاقتصادية. وهو حل لا يقل سذاجة فى الواقع لأزمة يصدر إلينا أن سببها هو الإضرابات المستمرة. فالعمال المضربون عن العمل لا علاقة لهم بأى استثمارات جديدة سواء أتت أم لم تأت.
هذه بعض صور المنطق المقلوب السائد فى الإعلام، وهى وغيرها طبيعية فقط نتيجة للفصل المتعمد للاقتصادى عن المجتمعى فى أى قراءة للواقع بما فى ذلك القراءات التى تقدمها قوى سياسية تتنافس فى الانتخابات البرلمانية ببرامج هى نسخ مكررة من بعضها البعض إلا فى تفاصيل صغيرة هنا أو هناك هى غالبا تعبر عن خصوصية شاذة لأحد الأحزاب.
فى قراءات الأحزاب يظهر منطق إضافى نتيجة حاجتها إلى الإدعاء بأن لديها طرحا شموليا يتعامل مع ما هو أكثر من الأزمة الحالية، ولذا نجد الجميع يعترف بأننا أمام حالة تمثل فشلا واضحا للنظام الذى يفترض أنه قد سقط ولكننا نجد الجميع أيضا يتفقون تقريبا على أن هذا الفشل لا يعود إلى السياسات المعلنة لهذا النظام وإنما لأن تنفيذ هذه السياسات قد شابه الكثير من الفساد وعرقل السرعة المطلوبة له الترهل البيروقراطى الموروث للدولة المصرية عبر مراحل تاريخها المختلفة.
تتفق تلك القراءات جميعها فى أنها تنظر فقط إلى الطبقة العليا للاقتصاد ثم هى ترتكب أخطاء واضحة فى استنتاجاتها، فأثر الفساد رغم استشرائه لا يمكن أن يكون بهذه الحدة خاصة وأن الاقتصاد العلوى فى مصر كان ينمو بمعدلات جيدة قبل الأزمة العالمية التى بدأت فى عام 2008 واستمر فى النمو رغم الأزمة. كما أن الأثر الأكبر للفساد وترهل البيروقراطية المصرية يظهر تحديدا فى قدرة الدولة على الإنفاق على الخدمات وهذا وإن كان يفاقم من آثار الأزمة الاجتماعية للطبقات الدنيا إلا أنه لا يؤثر مباشرة فى دخول هذه الطبقات شديدة التدنى.
الأهم من ذلك أن هذه القراءات تتجاهل حقيقة أن ذات السياسات التى يراد تبرئتها قد فشلت فى كل مكان طبقت فيه فى العالم مع تفاوت درجات الفساد الحكومى فى بلدانه المختلفة وهى قد فشلت تحديدا فى تحقيق ما يسمى بتسرب الثروة من أعلى إلى أسفل وانعكس ذلك فى اتساع هوة الفوارق الطبقية فى المجتمع وجمود الدخول الحقيقية للطبقات العاملة أو انخفاضها. حدث هذا فى مصر وحدث فى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية كما حدث فى أمريكا اللاتينية وتركيا ودول جنوب شرق آسيا.
●●●
المشكلة باختصار هى أنه قد ثبت أن العلاقة الآلية بين نمو الاقتصاد العلوى وبين تحسين مستويات المعيشة للمجتمع ككل لا وجود لها، فالاقتصاد العلوى يمكن أن ينمو باطراد وبمعدلات كبيرة دون أن يصل أثر ذلك إلا لفئات مجتمعية محدودة، ويؤدى انسداد وضعف قنوات انتقال الثروة إلى أسفل إلى قتل الاقتصاد الحقيقى للمجتمع والذى لا يكاد أحد المتابعين ينظر إليه.
هنا ينبغى علينا إعادة النظر إلى الاقتصاد فى إطاره الاجتماعى بوصفه نشاطا مجتمعيا وليس وظيفة للمجتمع والفرق يتجلى فى تصور البعض للمجتمع كورشة إنتاج ضخمة أو كمشروع استثمارى بدلا من أن يراه ككيان عضوى حى على خلاياه أن تؤدى وظائفها الحيوية أولا قبل أن يكون للكيان فى مجمله القدرة على بذل أى جهد أو القيام بأى وظيفة.
ما أسميه بالوظائف الحيوية للمجتمع ككائن حى هو اقتصاده الداخلى المسئول عن إنتاج احتياجاته، هذا الاقتصاد يقوم على ما يصل إلى خلايا المجتمع من غذاء من خلال انخراطها فى الاقتصاد العلوى. بمعنى أوضح هو يقوم على نصيب الطبقات العاملة والوسطى الصغيرة من عائد الإنتاج فى الاقتصاد العلوى. هذا النصيب من عائد الإنتاج هو ما يمثل القوة الشرائية لهذه الطبقات التى تخلق الطلب على سلع وخدمات يستهلكونها مما يؤدى إلى خلق فرص عمل لغيرهم.
انخفاض دخول المشاركين فى الاقتصاد العلوى من العمال والموظفين وصغار المهنيين يؤدى إلى هزال شديد فى هذا الاقتصاد المجتمعى وتدنى قدرته على خلق فرص عمل هى بطبيعتها منخفضة التكلفة تسهم فى القضاء على معدلات البطالة التى لا يكون ثمة مجال إلى علاجها إلا من خلال الاقتصاد العلوى الذى ترتفع فيه كلفة خلق فرص العمل، والإفراز الطبيعى لهذا الوضع هو تفاقم ظواهر مثل تضخم أعداد الباعة الجائلين الذين يزعم تقرير صحفى أن عددهم فى القاهرة الكبرى قد وصل إلى مليونى بائع فى مدينة يبلغ سكانها والمترددون عليها حوالى 20 مليون نسمة! ومثل تزايد أعداد أطفال الشوارع والبلطجية وهى ظواهر انتقلت إلى مقدمة الصورة مؤخرا ولفتت أنظار الإعلام ولكن بصورة تستخدمها لأغراض لا علاقة لها ببحث منابعها الأصلية.
هذا يعيدنا مرة أخرى إلى حيث بدأنا، إلى الاحتجاجات العمالية التى هى فى مجملها تدور حول مطالبات بتحسين دخول العمال أى نصيبهم من عائد الإنتاج فى الاقتصاد العلوى. هذه المطالب إذن وفى مقدمتها رفع الحد الأدنى للأجور ليست مطالب فئوية وإنما هى ضرورات مجتمعية تمثل فقط جزءا من الحلول العاجلة التى يجب طرح المزيد منها لتمكين الاقتصاد المجتمعى من النمو.
●●●
يخطئ من يظن أن الخطط الوهمية لعلاج الأزمات الوهمية للاقتصاد العلوى يمكن لها أن تعمل كمسكنات ومهدئات للبركان الشعبى الذى انفجر مرة فى 25 يناير ولم يهدأ فى حقيقة الأمر بعد. فلا يمكنك أن تطالب جائعا بأن ينتظر رغيفا تحمله له خطة إصلاح خمسية فى نهايتها أو أن تقنع أبا لطفل مريض يحتاج إلى علاج الآن بأن ينتظر إصلاح منظومة التأمين الصحى خلال عشرة أعوام قادمة. صحيح أنك لا تستطيع إعادة بناء بلد فى يوم وليلة ولكنك أيضا لا تستطيع إخماد حريق بتجاهله.