بعد طول مماطلة أعلنت اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية اسم الفائز بأول انتخابات لرئيس مصر بعد الثورة. بالنسبة لكثيرين هذه لحظة فارقة فى تاريخ مصر. ففى يقين الجميع تقريبا أن فوز الدكتور محمد مرسى يقودنا فى مسار مختلف تماما عن ذلك الذى كان يمكن لفوز الفريق أحمد شفيق أن يقودنا فيه. بمعنى أوضح فى خيال معظمنا بدا أننا أمام مفترق طرق يتفرع عنه صورتان مختلفتان كل الاختلاف لمستقبل هذا البلد. وربما ذهب بهؤلاء خيالهم إلى توقع أن يكون لحياة كل واحد منا شكل مختلف كل الاختلاف بين هذه النتيجة وتلك!
المؤكد أن هذه الصورة قد حكمت خيال معظم من خرجوا فى يومى التصويت إلى مراكز الإقتراع. والمؤكد أن أكثر من نصف هؤلاء قد أعطى صوته لشخص لم يكن هو اختياره الأول، وفى أغلب الظن صوت أكثرهم ضد المرشح الآخر بهدف تجنب المستقبل الذى توهموا أن انتخابه يقودنا إليه. ولكن المؤكد مرة أخرى أنك إن سألت أيا ممن صوتوا إيجابا (أى عن قناعة بمرشحهم) أو سلبا (أى فقط ضد المرشح الآخر) عن تصورهم للمستقبل الذى سيقودنا أحد المرشحين إليه فإنه على أفضل تقدير سيقدم لك صورة ضبابية غير واضحة المعالم!
●●●
يضيف إلى ضبابية صورة المستقبل لدى الجميع هذا الإعلان الدستورى التكميلى الذى استبق به المجلس الأعلى للقوات المسلحة بدء عملية فرز الأصوات فأصدره فى ساعة متأخرة من مساء ثانى أيام التصويت. إجمالا تعنى مواد هذا الإعلان أن الرئيس المنتخب لا يمتلك بأى حال من الأحوال ما يكفى من السلطات ليكون من يقرر لهذا البلد مستقبله فى الفترة القادمة. نتيجة هى فى اعتقادى لا تعدو أن تكون تحصيل حاصل. بعبارة أخرى كان هذا الإعلان كاشفا لجزء من الواقع وليس منتجا لواقع جديد.
يبدو الإعلان وكأنه يضيف إلى معادلة السلطة المتحكمة فى رسم المستقبل أطرافا لم تكن بها منذ البداية. فهو يقرر بوضوح أن المجلس العسكرى سيكون طرفا فى إدارة شئون مصر ورقيبا على عملية إنتاج دستور لها إن لم يكن الفاعل الرئيسى فى كتابته. ففى حال ما إذا واجهت الجمعية التأسيسية المغضوب عليها ما يحول دون استمرارها فى العمل (أمر شبه مؤكد نتيجة الطعون على تشكيلها) سيكون من حق المجلس العسكرى أن يقوم منفردا بتشكيل جمعية جديدة. الإعلان الدستورى أيضا يجعل من خمس الجمعية التأسيسية كتلة معطلة لتمرير أى مادة فى الدستور الجديد ثم يفرض وصاية المحكمة الدستورية العليا على الدستور الجديد بشكل يجعلها الحكم النهائى على أى نص فيه!
●●●
ولكن مرة أخرى ما يبدو إضافة هو فى الواقع تحصيل حاصل. فلم يحدث يوما إن لم تكن المؤسسة العسكرية هى الحاكم الفعلى لمصر، ولم يحدث يوما أن لم تكن البيروقراطية المدنية وفى قمتها القضاء أداة لتمرير إرادة السلطة وفرضها فى إطار من الشرعية. كما أن الأقلية المعطلة التى أغلب الظن سيمثلها مندوبو المؤسسات البيروقراطية غير المنتخبة فى الجمعية كانت دائما حاضرة وفاعلة فى المشهد مرة أخرى لتمرير إرادة السلطة التى تملك تعيينها. الجديد فقط هو الحاجة إلى إطار شرعى لفرض ما هو أمر واقع. وهذا الجديد نشأ فقط عن الحاجة إلى إفساح مجال لعنصر جديد يضاف إلى لعبة تقاسم السلطة فى مصر وهو الإخوان المسلمون.
أقول إفساح المجال للإخوان ولا أقول: استبعادهم أو إقصاؤهم. ففى حالة السيولة الحالية تسعى أطراف السلطة إلى الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من نصيبها الحالى منها فى حين يتطلب الوصول إلى حالة من الاستقرار السماح للإخوان بأن يكونوا طرفا فى تقاسم الكعكة. وما نشهده ليس إلا لعبة شد الحبل التى تمثل فى اللحظات الحاسمة شكلا من أشكال التفاوض الخشن. فى نهاية المطاف وبرغم كل الاحتياطات المتخذة لحصر نصيب الجماعة فى أضيق نطاق ممكن إلا أن كل ما يمكن للجماعة أن تحصل عليه هو إضافة ومن ثم هو إفساح لها وليس إقصاء كما يخيل للمشاهد.
يتوارى الآن الاحتمال الذى ظل طوال الفترة الماضية حاضرا ــ أو مستحضرا عن قصد ــ فى المشهد. وهذا هو إمكانية سعى أطراف النظام القائم إلى التخلص كليا من الإخوان. مؤشرات ذلك الواضحة كانت حل مجلس الشعب والتلويح بإمكانية حل الجماعة ذاتها وكذلك ذراعها السياسية إضافة إلى شبح إنجاح الفريق أحمد شفيق على حساب مرشح الجماعة فى انتخابات الرئاسة وهو الذى ظل حاضرا حتى لحظة إعلان النتيجة. يخلف هذا الاحتمال وراءه حقيقة مهمة هى أنه وإذا كان وجود الإخوان فى معادلة السلطة أصبح أمرا واقعا إلا أنه يظل مرهونا فى حجمه برضا الأطراف الأصيلة فى هذه المعادلة وخصوصا المؤسسة العسكرية. صناديق الانتخاب فى هذا الإطار ليس لها إلا قيمة رمزية وبالإمكان دائما ضرب الحائط بما تنتجه سواء كان هذا قبل أو بعد تجسده فى الواقع.
●●●
لاستكمال الصورة لا ينبغى أن ننسى ما يسمى بالقوى المدنية وهى تلك المتمثلة فى أحزاب ترفع شعارات ليبرالية أو حتى يسارية وتعتمد فى وجودها البائس فى المشهد على حاجة النظام إلى أدوات فى المؤسسات المنتخبة يمكن استخدامها فى تفاوضه الخشن مع الإخوان على تقاسم السلطة.
الصورة فى مجملها ليس لتعقيدها أى أثر إلا فى تكثيف ضبابية المشهد وخلق وهم وجود مسارات مختلفة بالقدر الذى يدفع الناس إلى تأييد طرف فى مواجهة آخر خوفا من مسار أو أملا فى الثانى. هذه الضبابية يستفيد منها كل أطراف اللعبة إذ تسمح لكل طرف بأن يحشد دعما جماهيريا ينتفع به فى تفاوضه. والأهم هى تمنح الأطراف جميعها غطاء شرعية ديموقراطية صناديق تبدو جادة وتنافسية بالقدر الذى يجعل المؤسسات السياسية الجديدة للنظام القديم فى منأى عن أى طعن عليها بدعوى عدم تمثيلها لإرادة شعبية حقيقة.
ثمة فقط مشكلة صغيرة فى حبكة المسرحية الدرامية الناجحة هذه. المشكلة أن الواقع العملى سرعان ما سيبدد عنها ستر الإيهام التى تسيطر على مشاهدها إلى حد جذبه إلى العيش فى واقعها البديل. بالنسبة لرجل الشارع ستختفى فورا أوهام المسارات المختلفة عندما يتأكد له أن واقعه اليومى لم يختلف بأى قدر عما كان عليه وعندما يستمع إلى الوعود والتبريرات والتحذيرات ذاتها التى لطالما سمعها من رموز النظام السابقين. فالحقيقة أنه وسط انشغالهم الشديد بممارسة لعبتهم السياسية المعقدة، غاب عن أطراف النظام القدامى والجدد أن ما أوصلهم إلى النقطة الحالية لم يكن تصاعد الصراع على السلطة وإنما انتفاض الناس على ظروف حياتهم وهو ما ليس فى مقدورهم التعامل معه. فما دامت بنية النظام لم تمس بأى تغيير ومادامت مفاوضات تقاسم السلطة فيه ستقوم حتما على الحفاظ على هذه البنية فإن النظام فى ثوبه الجديد سيكون أقل مرونة حتى مما كان عليه. فى الواقع ارتكب الجميع خطيئة إضافية إذ سمحوا لصراعهم على تقاسم السلطة أن ينتج عنه وعود كثيرة رفعت أسقف توقعات الناس إلى حد أكبر كثيرا مما كانت عليه عشية الثورة. هذه التوقعات وإحباطها الذى يكاد يكون مفروغا منه وانعدام المرونة فى النظام الجديد القديم التى تصل إلى حد إعادة إنتاج أجزاء منه بذات وجوه الماضى كل هذا سيؤدى حتما إلى أن يجدد الشعب ثورته بانتفاضة جديدة. حينئذ سيندم كثيرون على تبديدهم أوراقهم على لعبة قمار على طاولة تقوم على قوائم نخرها السوس فلم يعد تهاويها إلا مسألة وقت.