الحد الأدنى للأجور والتكلفة الاجتماعية للإنتاج - تامر موافي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:30 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحد الأدنى للأجور والتكلفة الاجتماعية للإنتاج

نشر فى : السبت 3 مارس 2012 - 8:25 ص | آخر تحديث : السبت 3 مارس 2012 - 8:25 ص

قد يكون من المفيد كثيرا لخبرائنا الاقتصاديين أن يعاودوا قراءة النصوص الأولى لعلم الاقتصاد خصوصا تلك التى كتبها رواده أمثال آدم سميث وديفيد ريكاردو. هذا بالطبع إن افترضنا أن هذا العدد الكبير ممن يطلون علينا عبر وسائل الإعلام المختلفة ويسبق أسماءهم عبارة «خبير اقتصادى» قد سبق لمعظمهم أن قرأ أيا من هذه النصوص. سيكون هذا مفيدا لنا جميعا أيضا لأنه سيوفر علينا عناء الاستماع إلى كثير من الآراء التى يسوقها هؤلاء ويفترض أنها تستند إلى أساس علمى سليم فى حين أنها فى الحقيقة لا تختلف كثيرا عن الآراء الانطباعية الساذجة التى قد يكونها أى شخص لا يتمتع بأى خبرة علمية.

 

أحد الموضوعات التى يظهر فيها جليا احتياج خبرائنا الاقتصاديين إلى العودة إلى المبادئ الأولى لعلم الاقتصاد لترشيد موقفهم منها هو المطالبة برفع الحد الأدنى للأجور. فيصر كثير منهم على إن هذا المطلب هو ضار بالاقتصاد الوطنى فى وقت يحتاج فيه إلى الحفاظ على الاستثمارات القائمة وإلى اجتذاب استثمارات جديدة. ويصر بعضهم على القول بأن الأجور ينبغى لها أن تترك لقوى العرض والطلب فى السوق. فيما يهاجم البعض الآخر الحد الأدنى المقترح (1200 ــ 1500 جنيه) على أساس أنه مبالغ فيه.

 

هذه الأقوال وغيرها تشترك جميعها فى أنها أحكام انطباعية وجميعها مردود عليه وإن كنت هنا لن أهتم بتكرار ما فصله كثيرون من ردود على هذه الحجج وغيرها وإنما سأهتم بمحاولة العودة إلى أصل معالجة مسألة الأجور فى علم الاقتصاد الكلاسيكى.

 

●●●

 

قبل أى شىء آخر نظر رواد هذا العلم إلى قوة العمل على أنها سلعة وإلى علاقة العمل على أنها عملية تبادل حر يقوم فيها من يمتلك قوة العمل (العامل) ببيع هذه السلعة لمن يحتاجها (صاحب العمل). وكأى سلعة فإن قوة العمل لها قيمة ترتبط بتكلفتها. وتكلفة قوة العمل تتلخص فى مجموع تكاليف الشروط اللازمة لتجددها كل يوم. بمعنى أوضح هى تكاليف ما يحتاجه العامل ليكون قادرا على الاستمرار فى عمله بصفة يومية. هذه التكاليف تشمل الغذاء والكساء والمأوى كما تشمل أيضا العلاج فى حالة المرض ولكنها لا تنتهى عند هذا الحد، فتكلفة إعادة إنتاج قوة العمل هى تكلفة اجتماعية. فبعد أربعين عاما من الآن لن يكون العامل ذاته هو من يبيع قوة عمله مقابل الأجر وإنما سيكون ثمة آخر غيره، وحتى يستمر الإنتاج لابد من إعادة إنتاج قوة العمل اللازمة متمثلة فى عامل آخر. هذا يعنى أن من ينتج قوة العمل هو المجتمع فى مجمله وتكلفة إنتاجها تشمل ما يتطلبه تكوين أسرة وإنجاب أطفال وتربيتهم ثم تعليمهم وتدريبهم إلخ.

 

الدراسة التى تم من خلالها حساب رقم 1200 جنيه كحد أدنى للأجور اعتمدت فى الواقع على حساب الحد الأدنى للتكلفة الاجتماعية لقوة العمل (وفق أسعار السلع والخدمات الأساسية فى وقت إجراء الدراسة). لهذا فالرقم الذى خرجت به الدراسة لم يكن اعتباطيا وهو يمثل الحد الأدنى لقيمة قوة العمل التى يحصل أى صاحب عمل بالضرورة على أكثر منها وإلا كان استمراره فى الإنتاج وتحقيق عائد أمرا مستحيلا. وبالتالى فإن المطالبة برفع الحد الأدنى للأجور إلى هذا الرقم لا يتعلق بمسألة أخلاقية هى الدور الاجتماعى لأصحاب الأعمال وإنما يتعلق عمليا بأن يقوم هؤلاء بدفع الحد الأدنى لقيمة ما يحصلون عليه بالفعل. فالتكلفة الاجتماعية لإعادة إنتاج قوة العمل يتم دفعها فى جميع الحالات وإذا لم يدفعها أصحاب الأعمال فإن من يتحملها هو المجتمع ككل ويتم ذلك غالبا من خلال الإنفاق الاجتماعى فى الموازنة العامة للدولة وهو فى الواقع ليس أمرا طبيعيا فهذا الإنفاق الاجتماعى يفترض به أن يغطى البطالة (مخزون قوة العمل المعطلة) والفئات غير القادرة على العمل. بمعنى أوضح لا ينبغى للمجتمع أن يدفع مقابل تجديد قوة العمل التى يتم استخدامها بالفعل فهو فى هذه الحالة يقدم دعما غير مباشر لأصحاب الأعمال دون وجه حق.

 

لابد من الإشارة هنا إلى أن ما يدفعه أصحاب الأعمال من ضرائب ليس إسهاما فى الدور الاجتماعى للدولة بحيث يمكن اعتباره مصدرا لتعويض القيمة الحقيقية لقوة العمل التى يحصلون عليها فالضرائب تدفع مقابل مجموعة من الخدمات التى لا يكون الإنتاج وتحقيق الأرباح ممكنا بدونها بداية بنفقات الدفاع والأمن الداخلى والتمثيل الخارجى ونفقات إنشاء المرافق وتشغيلها وصيانتها وغير ذلك. وتناسب الضرائب مع الدخل يعكس حقيقة أنه كلما ارتفع الدخل ارتفع نصيب صاحبه من النفقات العامة. وهذا هو السبب الحقيقى لكون الضرائب التصاعدية أكثر عدالة من الضرائب ذات الشريحة الثابتة.

 

عندما تبتعد أجور قطاع كبير من العمالة عن الحد الأدنى لتكلفة قوة العمل فإن النتيجة الطبيعية هى تزايد الأعباء على الموازنة العامة للدولة وتزايد العجز فيها وهو أمر يستمر فى التفاقم خصوصا إذا ماكانت السياسة المعتمدة للدولة هى السعى لاجتذاب الاستثمارات بالاعتماد على رخص الأيدى العاملة كعامل رئيسى. ففى هذه الحالة تمثل الاستثمارات الجديدة أعباء إضافية غير منظورة مادامت لم توفر وظائف تتخطى أجورها الحد الأدنى لتكلفة قوة العمل.

 

الأسوأ وهو ما نعانيه فى مصر لعقود اليوم هو أن يفشل المجتمع من خلال الإنفاق العام لحكومته فى دفع فارق التكلفة الحقيقية لتجديد قوة العمل لأفراده، فهذا يعنى انهيار قدرته على تنمية اقتصاده بشكل تدريجى. وهذا يتمثل بوضوح فى عدم تمكنه من توفير التعليم والتدريب والخدمات الصحية الأساسية اللازمة لتجديد قواه اللازمة لاستمرار الإنتاج ونموه.

 

●●●

 

إننا عندما نعيد النظر إلى الأمور فى سياقها الصحيح يمكننا أن ندرك أن تبريرات انخفاض الأجور بإنخفاض إنتاجية العامل وعدم توافر عمالة مدربة بقدر كاف هى تبريرات تضليلية. ليس لأن هذه الظواهر غير صحيحة بالفعل ولكن لأن السبب الحقيقى وراءها هو تعرض المجتمع لما يشبه عمليات الرعى الجائر التى تؤدى للتصحر، والرعى الجائر هو مصطلح يطلق على استغلال المراعى بطريقة لا تسمح لها بتجديد نفسها وتقضى على قدرتها على النمو من جديد مما يحولها إلى صحارى لا يمكن الانتفاع بها. وهذا هو أقرب وصف لما تعرض له المجتمع طيلة عقود حرم فيها من نصيبه العادل من عوائد الإنتاج وبالتالى حرم أيضا من إمكانية تجديد قدرته على الاستمرار فى الإنتاج والنمو بمعدل مناسب. وبالتالى فما نطلق عليه التوزيع غير العادل للثروة ليس فى الحقيقة مفهوما اجتماعيا وليس مفهوما أخلاقيا للعدالة وإنما هو مفهوم عملى يشير إلى تعرض المجتمع للنهب المنظم ولتقويض قدراته على النمو والتطور.

 

إصرارنا على وصف إجراءات من نوع رفع الحد الأدنى للأجور وإقرار نظام ضرائب تصاعدية بالمطالب ثم تصنيف هذه المطالب تحت باب العدالة الاجتماعية يرسم صورة تضليلية لحقيقة هذه الإجراءات وهو يوحى بأنها تعبير عن مسئولية أخلاقية تجاه فئات بعينها من المجتمع تصادف أنها أقل حظا من غيرها. ولكن الحقيقة أن هذه الإجراءات ضرورية لاستمرار حياة هذا المجتمع على المدى المتوسط والبعيد وإخفاقنا فى اتخاذها اليوم يتهدد مستقبلنا بسيناريوهات من نوع ثورة الجياع وانهيار الدولة والفوضى التى يحب البعض أن ينسبها إلى الأيادى الخفية والمؤامرات الأجنبية. ولكن على عكس هذه الأيادى والمؤامرات فإن عملية الإفقار الممنهج لهذا البلد ليست مجرد حكاية خيالية من إبداع عقل مريض.

تامر موافي مدون مصرى
التعليقات