سعيكم مشكور - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 18 أبريل 2025 12:08 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

سعيكم مشكور

نشر فى : الخميس 10 أبريل 2025 - 7:05 م | آخر تحديث : الخميس 10 أبريل 2025 - 7:05 م

ظهر لى على أحد المواقع ما يلي: نموذج وصيغة خبر نعى وفاة.. فانتبَهت. لفت نظرى أن هناك مَن فكّر فى وضع نموذج لكتابة النعى كما أن هناك إجابات نموذجية فى كتاب سلاح التلميذ، مع الفارق الكبير جدًا بين الأمرين. بدأتُ فى القراءة فوجَدتُ أن هناك نماذج تخصّ الجدّ والجدّة، ومدير الشركة، والزميل الموظّف فى نفس الشركة، والصديق، وتختلف صيغة النعى من حالة إلى الثانية. فعلى سبيل المثال تزيد جرعة المشاعر الإنسانية فى النعى الخاص بالأجداد عبر الإشارة إلى أن فقدانهم يعّد خسارة لا تعوّض، والتذكير باللحظات الجميلة التى قضيناها معهم ونحملها فى قلوبنا. وتكون الجرعة الإنسانية أكبر والنعى أطول فى حالة الصديق الذى يوصف بأنه شخص عزيز ومحبوب وطيّب ومرح وودود ومصدر للسعادة والضحك والدعم وتركَ بصمة فى حياة كل الناس، وأن رحيله المفاجئ مثّل صدمة كبيرة للجميع. وفى المقابل فإن نعى المدير يتميّز بالتحفّظ لأسباب مفهومة مع التركيز على الاستعداد لتقديم أى نوع من الدعم والمساندة لأهل الفقيد. وبالإضافة إلى هذه النماذج المتخصّصة نجد أن هناك نموذجًا يتضمّن الخطوات العامة المطلوب اتباعها عند كتابة إعلان الوفاة. وتبدأ هذه الخطوات بإعلان الوفاة فى وسط الصفحة، ثم البسملة، ثم آية قرآنية عادةً ما تكون «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربّك راضيةً مرضيةً فادخلى فى عبادى وادخلى جنّتى»، ثم بمزيد من الحزن والأسى وبقلوب راضية بقضاء الله توفّى إلى رحمة الله فلان الفلانى، ثم التفاصيل الخاصة بترتيبات الجنازة، ثم إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ويمكن فى النهاية الدعاء للمتوفّى بأن يدخله الله فسيح جنّاته.
• • •
وكما هو واضح فإن ما سبق يحمل خلطًا بين النعى الذى هو الإعلان عن واقعة الوفاة، وبين المشاطرة التى تهدف إلى الإعراب عن المواساة. لكن مسألة الخلط ليست هى بيت القصيد على الإطلاق، أما بيت القصيد فهو تصوّر إمكانية تعليب المشاعر الإنسانية وقولبتها، وافتراض أن هناك تعبيرات نموذجية للإفصاح عن تلك المشاعر وهو ما لم يكن أبدًا يمكن تصوّره قبل عصر الروبوت والإنسان الآلى. عشت فى أسرة تتعامل مع ظاهرة الموت بجلالٍ شديد، وتعطى أداء واجب العزاء أهمية قصوى لأن الناس لبعض. وما زلت أذكر كيف كان والداى يبدآن قراءة صحيفة الأهرام من صفحة الوفيات ثم ينتقلان إلى الصفحة الأخيرة حيث العامود اليومى لأحمد بهاء الدين ويوميات كمال الملّاخ. وعندما شعر أبى بدنّو الأجل كتب نعيه بخطّه المنمنم الجميل وبعناية شديدة حتى لا ينسى أحدًا من الأهل، فلقد كان من الممكن أن يتسبّب النسيان فى أزمة عائلية كبيرة. إلى هذا الحدّ كانت مراعاة خواطر الأقارب. وعندما ضعف نظر أمى كانت تُجلس ابنى وهو فى الثانية عشرة من عمره ليقرأ لها صفحة الوفيات، ولولا حبّه الشديد لها لما أقدم على هذا الواجب الثقيل. هكذا كنّا نتعامل مع ظاهرة الموت، أما النعى النموذجى، والسرادقات التى يتّم تصويرها بالڤيديو، فهذا كله جديد فى جديد. أفتح قوسين لأقول إنه إذا كان أصحاب فكرة النعى النموذجى قد فعلوا ذلك دون مقابل، فإن هناك مَن يتقاضون مقابلًا ماديًا نظير إتمام الإجراءات بما فى ذلك توفير ما يسمّونه بالهدايا التذكارية أى المصاحف والسِبَح وسجاجيد الصلاة، فكما إننا عشنا لنرى الـ wedding plannerفإننا أيضًا عشنا لنرى الـfuneral planner.
• • •
الحزن، مثله مثل كل المشاعر الأخرى، ينبع من داخل النفس البشرية ولا يمكن أن يعبّر عنه بتلقائية وصدق إلا الشخص الذى يشعر به فعلًا، وما عدا ذلك يكون مفتعلًا ومزيّفا وقد يكون تجاريًا فى بعض الأحيان. والفارق بين الاثنين هو نفس الفارق بين الشىء المطبوع والشىء المصنوع أى المفتعل، باستعارة عبارة عبد القادر المازنى. ولذلك فعندما قرأتُ موضوع نماذج النعى هذه، وبعد أن زالت الدهشة الأولى والمفاجأة اللحظية- تذكّرتُ كعادتى مشهدًا سينمائيًا طريفًا. المشهد مأخوذ من فيلم «علمّونى الحب»، وكان فيه عبد السلام النابلسى يملى على صديقه أحمد رمزى - خطاب حب ليبعث به رمزى إلى حبيبته إيمان. قال له النابلسى كلامًا يفطّس من الضحك لا علاقة له لا بأى شىء، من نوع «تحيّة كالنسيم العليل البليل من عصفور أصابه النهيل، هذا العصفور المسكين أصابته عاصفة غضبك فانكسر جناحه، واحسرتاه، ريشه منتوف وعقله مهفوف ورأسه مكشوف»!!! وكادت تحدث كارثة لو وصل هذا الأى كلام لإيمان لولا تدخّل سعد عبد الوهاب الذى قال «الحب مش ألفاظ الحب إحساس، وتأكّد إن الكلام مهما يكون بسيط لازم يمّس القلب». الحزن أيضًا إحساس.
• • •
إمعانًا فى السخرية، نتخيّل مثلًا أن أحد الأشخاص قد نقل نموذج المواساة المقترح فى مناسبة وفاة صديق، فكتب عنه دون أى تفكير أنه كان ضحوكًا مرحًا ودودًا وأن وفاته كانت مفاجئة، بينما لم يكن هذا الكلام مناسبًا لا لشخصية المتوفّى ولا لظرف الوفاة- فماذا يكون الحال وأى أثر تتركه المواساة المفتعلة لدى الطرف الآخر؟. هنا أيضًا أستدعى مشهدًا من فيلم «سلامة فى خير»، عندما ألقى نجيب الريحانى فى حفل يحضره علية القوم خطابًا كان من المفترض أن يلقيه عندما يزور أحد ملاجئ الأيتام- فقال «لقد جمعوكم فى هذا الملجأ من الأزقة والشوارع» وعندما زجره المرافقون له على هذا الخطأ الفادح ــ وصف الأزقّة والشوارع بـ«الفخمة الفاخرة»، ثم مضى مسترسلًا "وأنقذوكم من التسوّل والتسكّع على أبواب القهاوى»، فعاد مرافقوه لزجره فغيّر كلامه كالتالى «والسرايات والڤيلات والقصور». والقصد أن خطبة الريحانى لم تكن تناسب المقام الذى ألقيت فيه، كما قد لا تناسب الصفات المذكورة فى النموذج الموحّد شخصية المتوفّى أو ظروف وفاته.
• • •
فى وسط هذا العالم شديد المادية والذى يتلاعب فيه الذكاء الاصطناعى بالصور والكلام، نحتاج إلى أن نتمسّك جدًا بذواتنا، وأن نتشبّث بإنسانيتنا، وأن نميّز بين الأشياء التى يمكن أن يطولها التغيير والأشياء الأخرى التى لا تقبل هذا التغيير، فأخشى ما أخشاه أنه بدلًا من انتظار أن يزرع إيلون ماسك فى أدمغتنا شرائحه المغرضة، نذهب بأقدامنا إلى الخيار الأشَد سوءًا فنضع على ألسنتنا كلامًا لا يمثَلنا ونزرع فى صدورنا شرائح من المشاعر المزيّفة.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات