كنافة بالقلقاس - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الإثنين 31 مارس 2025 5:24 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

كنافة بالقلقاس

نشر فى : الخميس 27 مارس 2025 - 8:20 م | آخر تحديث : الخميس 27 مارس 2025 - 8:20 م

اعتدنا على تقاليع رمضانية عجيبة في صناعة الحلويات كل عام، وتعتبر الكنافة المسكينة ولأسباب غير مفهومة هي صاحبة النصيب الأوفر من هذه التقاليع في حين أن البسبوسة مثلًا أو القطايف لم ينلها من هذه التقاليع إلا أقل القليل. سنة بعد سنة يتحفنا مطوّرو الكنافة بأفكارٍ ما أنزل الله بها من سلطان، فنجد إعلانًا في إحدى السنوات عن الكنافة المحشوّة بالكبدة الإسكندراني، وفي سنة أخرى نسمع عن الكنافة بالجمبري، كما تردّد أيضًا الكلام عن الكنافة بالكوارع ثم تبيّن أن الموضوع كان مجرد إشاعة، هذا طبعًا عدا عن الكنافة بالكولا وبالقهوة العربي وبالتوت الأزرق وباقي فواكه العام. ومع كل اختراع من هذه الاختراعات كنت أعتقد أن مطوّري الكنافة قد وصلوا إلى آخر مدى، لكن حدث أن عرفت قبل عامين أنه يمكن حشو الكنافة بكريمة بالرنجة. في البداية تصوّرت أن الموضوع لا يعدو كونه إشاعة كإشاعة الكنافة بالكوارع، لكن تبيّن أنه حقيقة، وعندما جلستُ أتابع طريقة عمل الكنافة بالرنجة عبر أحد برامج التيك توك من باب الفضول، لفت نظري الثبات الانفعالي العجيب للسيدة الفاضلة التي كانت تقوم بالشرح، وكأنها كانت تشرح لنا مثلًا طريقة عمل الملوخية بالأرانب. أمسكتُ بالقلم ورحت أكتب وراء السيدة إياها فوجدتُ أن الموضوع بالغ التعقيد ففيه بصل أخضر ورنجة مخلية وفلفل أحمر (تم التشديد على أن يكون الفلفل رومي مش حامي.. يا سلام على الدقة!) وطحينة ومايونيز وليمون وخل وزيت وسمن و… طبعًا نصف كيلو كنافة. باختصار كان هناك مجهود خرافي للتحايل على طبيعة الكنافة بجعلها أكثر ملوحة وعلى الرنجة لجعلها حلوة المذاق، والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا كل هذا المجهود في خلط ما لا يمكن خلطه؟ يقول المثل الشهير: شيل ده من ده يرتاح ده عنده، ولو طبّقناه لظلّت الكنافة كنافة والرنجة رنجة، ولما خلطنا بين رمضان وشم النسيم، لكن قاتل الله الترند وهواية ركوب الترند.
• • •
تفتّق خيال صنّاع الحلويات هذا العام عن نوع جديد من الكنافة هو الكنافة بالقلقاس! ومع أن هذه التوليفة كانت كفيلة بأن تشعرني -كمريضة قولون مزمنة- ببعض التقلصات غير اللطيفة، إلا أنني أعترف أن دهشتي كانت أقل من دهشتي حين سمعتُ عن الكنافة بالرنجة، فالذي يخلط الكنافة بالرنجة يمكن أن يخلطها بأي شئ. دخلتُ هذه المرة على جوجل لأتعرّف على ملامح هذا النوع الجديد من الكنافة فوجدتُ أمامي صورة قرص مستدير بنفسجي اللون عليه هلال كبير من حبّات الفزدق. لم يكن اللون البنفسجي الفاقع يشبه قلب ثمرة القلقاس التي تميل إلى اللون البمبي الفاتح، وعندما سألتُ أهل الخبرة عرفتُ منهم أن الثمرة ليست هي بالضبط ثمرة القلقاس المصري التي نعرفها وتربينا عليها طوال الشتاء وفي عيد الغطاس، بل هي ثمرة من البطاطا التي تُزرع في جنوب وجنوب شرق آسيا وأيضًا في أفريقيا ولها هذا اللون البنفسجي الفاقع. وكما فعلتُ مع كنافة الرنجة قرّرت أن أتعرّف من باب الفضول على طريقة عمل كنافة القلقاس فوجدتها أبسط قليلًا في مكوناتها فهي تعتمد على السكر والعسل والحليب والزبدة والقرفة بالإضافة إلى الكنافة والقلقاس. لكن المسألة لا تتعلّق بالبساطة والتعقيد، المسألة تتعلّق بإرباك حاسة التذوّق لدينا من خلال الخلط بين ما لا يمكن التفكير في اختلاطه. أذكر أن ابنتي في طفولتها كانت تعشق طبق المكرونة مع القلقاس، وأذكر أيضًا كيف كانت هذه التقليعة تُقابَل بالسخرية من باقي أفراد الأسرة الذين كانوا يرون أن القلقاس لا يمكن تناوله إلا مع الخبز، فما بالنا بتناول القلقاس مخلوطًا بالكنافة؟ أفتح قوسين هنا لأقول إن أغلب الاختراعات الجديدة عادةً ما يكون سعرها فوق مستوى إمكانيات الطبقة المتوسطة، وهذه قضية أخرى تحتاج إلى مقال منفصل.
• • •
عاش أبناء جيلي حياةً طويلةً ممتدةً، وأربكتهم الطفرة التكنولوچية الهائلة التي جعلَت العالَم من حولهم ينقلب رأسًا على عقب. ومع ذلك فإنهم يحاولون بمنتهى الإخلاص مواكبة تطورّات هذا العصر حتى لا يقال عنهم إنهم دقّة قديمة. انتقلوا من الكتابة بالقلم إلى النقر على الكمبيوتر، وتأقلموا مع تكوين الصداقات الافتراضية الوثيقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتعلّموا كيف يشاركون في الزووم والوبينار ويغلقون الكاميرا حين لا يكونوا مستعدين للظهور أمام الآخرين، وتكيّفوا نسبيًا مع قراءة الصحف على الإنترنت وعلى نشر أخبار وفيات الأقارب على الفيسبوك. أصبحوا يجيدون التعامل مع الأوبر ويستخدمون تطبيقه لتوصيلهم للنادي حين لا تتوفّر توصيلة مناسبة، وعرفوا كيف يتابعون دخول المعاش الشهري إلى حسابهم عن طريق الموبايل، كما عرفوا أيضًا طريق الإنستاباي. استجاب بعضهم لضغوط الأبناء للانتقال من العمارات التي قضوا فيها أغلب سنين عمرهم ويعرف فيها الكلُ الكلَ -إلى الكومباوندز البعيدة حيث لا أحد يعرف أحدًا وترتفع فيها أسوار الأسمنت بين الجيران. تغيّرت عاداتهم في الاحتفال بالأعياد والتسوّق والمصيف، وتساهلوا مع ضمير المخاطب "أنت وأنتِ" يناديهم به أطفال العائلة رغم فرق الأجيال. فعلوا كل ذلك وأكثر منه، لكن ظلّت هناك أشياء لم يستطيعوا مجاراتها، ومنها خلطات الكنافة العجيبة. فبالنسبة لأبناء جيلي فإن للكنافة حشوها المعروف وهو إما المكسّرات أو القشدة، أما الرنجة والجمبري والقلقاس التي يتّم دسّها بقدرة قادر داخل الكنافة فليست في قاموسنا. وبالمناسبة هناك حلوى تسمّى "قدرة قادر" عبارة عن كريم كراميل فوق كيكة من الشيكولاتة، وعندما أبديت دهشتي عند سماع هذا الاسم والمكونّات لأول مرة- نظرَت لي إحدى بنات العائلة نظرتها لكائن هبط لتوّه من كوكب المريخ قائلة: معقولة ما تعرفيش "قدرة قادر" يا طنط؟

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات