أسئلة الانتصار - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 9:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أسئلة الانتصار

نشر فى : الجمعة 4 يناير 2013 - 9:05 ص | آخر تحديث : الجمعة 4 يناير 2013 - 9:05 ص

يشم الزائرون فى شوارع غزة رائحة الانتصار، ويرى السائرون فى طرقاتها واقعية أهلها فى تعاملهم مع الحرب والحصار والحياة، ويفرض انتصارها الأخير أسئلة جدية تتعلق بمستقبل الصراع لم تزل إجاباتها غائبة عن أجواء المدينة.

 

•••

 

الحياة تحت الحصار ليست سهلة ولا مستحيلة؛ فالسلع متوافرة بأسعار مرتفعة بسبب عمولات المهربين، وجلها قادم من إسرائيل التى يضطر أبناء القطاع للتعامل بعملتها والتبادل التجارى معها، ومحطات تحلية المياه تعمل بكفاءة متوسطة، والكهرباء تصل للمنازل ساعات معدودة كل يوم، وحرية التنقل والسفر تحدها عجرفة الاحتلال من جهة الشرق، وسوء المعاملة والتضييق غير المبرر على الحدود مع مصر، حيث الوضع أفضل مما كان عليه قبل الثورة، وأسوأ مما ينبغى أن يكون عليه، ومما عليه الموانى الحدودية الأخرى.

 

يتعامل أهل القطاع مع ظروفهم بواقعية وإنسانية، بعيدا عن الأساطير التى تنسجها بعض الخيالات، فيرغب بعضهم فى مغادرة القطاع لقلة الفرص العلمية والتعليمية، ثم يزيدهم القصف الإسرائيلى عنادا وإصرارا على البقاء، والمهجرين يزيدهم الانتصار تفاؤلا بالعودة لبيوتهم فى حيفا ويافا وتل الربيع والقدس، ويشعر غيرهم بالحنق بسبب التضييق السياسى الذى تفرضه حماس على أنشطة معارضيها والمستقلين عنها فى الجامعات والشوارع، والتضييق الأمنى الذى يحيل القطاع للسيطرة الليلية لكتائب القسام، المضطرة ــ كما تقول ــ لتلك الإجراءات الهادفة لتأمين القطاع ضد أى اجتياح محتمل، وضد تحركات العملاء، ويتابع فلسطينيو غزة عن قرب ما يحدث فى مصر، التى كانوا أول من احتفل بثورتها، وتعرض بعضهم بسبب ذلك للاعتقال من سلطة حريصة على ألا تبدو متدخلة فى الشأن المصرى.

 

ويختلف الغزاوية فى تقييمهم للأداء السياسى لحماس، بعضهم يشكو من اقتحامها مساحة الحريات الشخصية، وآخرون يمتدحون نجاحها فى ضبط الأمن وتخفيف وطأة الحصار على نحو يخفف المعاناة، وينظر غيرهم بريبة للعلاقة بين الحكومة، والحركة، وكتائب القسام، والتى تجعل الكلمة النهائية فى القطاع للعسكريين، ويعتذر البعض عن ذلك بالاحتلال، ويولى المواطنون درجات متباينة من الاهتمام للعنف المستخدم بين الفصائل فى خلافاتها، ورغم إيمانهم باستحالة المصالحة بين قيادتى الضفة وغزة فإنهم يأملون فى صيغة جديدة يتجاوزون بها الوضع الحالى الذى يختصر فلسطين فى غزة، وحتى فى داخل حماس يوجد خلاف بين من يمجدون «الحسم» الذى تم فى 2007 ويروجون للجوء إليه فى سياقات أخرى، ومن يرونه شرا كان لا بد منه، ومن يرون أن ثمة خيارات سياسية أخرى كانت ستؤدى لنتائج أفضل.

 

ويتفق فلسطينيو غزة ــ رغم اختلافاتهم ــ فى اعتزازهم بالمقاومة، إذ يميزون بدقة بين وظيفتى الحكم والمقاومة لحماس، ويدافعون فى الثانية حتى عند اختلافهم على الأولى، خاصة بعدما ضربت المقاومة العمق الإسرائيلى فى القدس وتل أبيب المحتلتين، وسببت لإسرائيل ألما عسكريا دفعها ــ بعد ثلاثة أيام من بدء الحرب ــ للتراجع عن تهديدات بالاجتياح البرى والهرولة طلبا لوساطة مصر لوقف إطلاق النار، والقبول بالشروط الفلسطينية للتهدئة.

 

•••

 

تطرح الانتصارات أسئلة أصعب من التى تطرحها الهزائم، لأنها تنقل الصراع إلى إطار جديد، وفيما تقتصر أسئلة الهزيمة على التطوير الإجرائى للأداء وعلاج أخطاء الماضى فإن أسئلة النصر تدور حول التطوير النوعى والاستراتيجى.

 

وانتصار المقاومة فى المعركة الأخيرة ـ الذى كانت الثورة المصرية، وما فرضته من تخفيف للحصار خلال السنتين الماضيتين سببا رئيسا فيه، إضافة لجهود المقاومة فى تطوير أدائها ــ أكد قدرتها على الدفاع عن غزة، وصد أى هجوم محتمل عليها، وهو ما يطرح أسئلة تتعلق بمستقبل الصراع واستراتيجياته على المدى المتوسط والبعيد.

 

•••

 

فالعقود الثلاثة الماضية شهدت تحولات فى معركة تحرير فلسطين، كانت خلاصتها القبول الإقليمى بنظام كامب ديفيد، والقبول المحلى بهياكل اتفاقية أوسلو، على نحو قصر الصراع عمليا على الحدود، وعلى شروط الحكم الذاتى، وتوارى الكلام عن التحرير والاستقلال، وظلت حركات المقاومة تعمل خارج هذا الإطار متحدية إياه، حتى قررت أن تقرن النضال بالمسار السياسى، وكان أن فازت حماس فى الانتخابات التشريعية سنة 2006.

 

ولم يكن من السهل حل التعارض بين «المقاومة» و«السياسة»، فعلى قدر ما ساعد الصعود السياسى لقوى المقاومة وما تلاه من «حسم» على تطوير قدرة المقاومة على الدفاع عن القطاع، فإنه بتكريس فكرة «الدولة» و«السلطة» فى القطاع قد جعل هذا الانتصار العسكرى للمقاومة يبدو وكأنه انتصار فى معركة خاطئة، أو انتصار غير مكتمل.

 

ذلك لأن الإطار الحاكم للانتصار هو انقسام بين الضفة وغزة، وتعزيز لفكرة «الدولة» فى الثانية، واستراتيجيات للمقاومة تهدف بالأساس للدفاع عن القطاع ضد أى هجوم محتمل، وتأمينه من «دولة» عدو، ومن ثم فإنها ــ فى التحليل الأخير ــ لا تتعارض مع أول أسس أوسلو التى هى حل الدولتين.

 

وتحرير الأرض ــ لا الدفاع عن المتبقى منها ــ هو الهدف المعلن لكل الفصائل الفلسطينية، ومن ثم فإن النجاح فى تأمين القطاع يوجب إعادة النظر فى استراتيجيات التحرير على المستويين المحلى والإقليمى، أما على المستوى المحلى فإن نقض أوسلو يتطلب إعادة النظر فى مسألة «الدولة»، إذ قيامها تحت الاحتلال ينطوى على قبول بالدولة المحتلة والتفاوض على الحدود، كما أنه يحولها ــ بدرجات متفاوتة ــ لحائط صد يحمى الاحتلال من بعض الضربات (السلطة فى الضفة تقوم بدور الجندى الاسرائيلى ومستويات التنسيق الأمنى بينها وبين الاحتلال غير خافية، وحماس فى غزة تضرب فصائل المقاومة التى تخرق اتفاقات التهدئة، وتمنع المواطنين من التظاهر فى المناطق الحدودية التى يجرفها جيش الاحتلال ويحولها لمناطق عازلة)، كما تتطلب مقاومة قصر فلسطين على غزة ــ إضافة إلى الالتفات لحرب المصطلحات ــ إيجاد صيغ جديدة للتواصل بين أبناء الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة، وفى فلسطين التاريخية، والشتات، وينبغى أن تنبنى على تلك التغييرات مراجعة لاستراتيجيات المقاومة لتعبر عن الانتقال من الدفاع إلى التحرير.

 

وعلى المستوى الإقليمى يحتاج تجاوز نظام كامب ديفيد لتغيير نوعى فى السياسات، فالتغييرات الإجرائية بتخفيف الحصار، وتيسير دخول الأفراد والبضائع، وغض الطرف عن تهريب الأسلحة، حتى لو تمت فإنها تبقى كامب ديفيد بشروط تسعينيات القرن الماضى ولا تتجاوزها لإطار يحافظ على الحقوق الفلسطينية، وهذه التغييرات النوعية لا يمكن إلا أن تستند لهياكل اقتصادية ومؤسسات سياسية أكثر ديمقراطية فى توزيع الثروة وملكية أدوات الإنتاج، وأكثر جدية فى تمكين الشعب من قراراته السياسية، كما يتطلب إعادة النظر فى استراتيجيات تسليح الجيوش، وفى التعاون العربى فى هذا الإطار.

 

•••

 

الانتصار الذى حققته المقاومة ينبغى أن ينقل المعركة السياسية إلى إطار جديد، يتجاوز معركة الحدود إلى مرحلة التحرير، ويتجاوز معركة الحكم الذاتى إلى معركة الاستقلال، والانتقال لهذه الأرض الجديدة هو وحده ما يجعل لهذا الانتصار العسكرى الذى تحقق معنى، ويستثمره فى طريق تحرير فلسطين.

التعليقات