البرنامج الذى قدمته الحكومة إلى مجلس النواب يوم الأحد الماضى، جاء تطبيقا للمادة (١٤٦) من الدستور والتى تجعل ولأول مرة، استمرار الحكومة رهنا بموافقة البرلمان على البرنامج، خلال ثلاثين يوما من تاريخ تقديمه، أى قبل يوم ٢٦ أبريل. ومع اعتقادى أن البرلمان سوف يقر البرنامج لكى يتجنب الدخول فى مأزق دستورى، قد ينتهى بحله وإجراء انتخابات جديدة، إلا إننى سأنتهز الفرصة لعرض بعض الملاحظات العامة ــ فى حدود ما تسمح به مساحة هذا المقال، لعلها تضيف إلى المناقشات الجارية.
الملاحظة الأولى إن ما قدمته الحكومة ليس برنامجا شاملا بل مجموعة برامج ومشروعات اقتصادية فقط. فبرغم إن الوثيقة المعروضة تشير إلى أنها تقدم رؤية الحكومة فى سبع قضايا رئيسية: الأمن القومى، والديمقراطية، والتنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والبنية الأساسية، والإصلاح الإدارى، والعلاقات الدولية، إلا أن الواقع أن موضوعها الوحيد هو البرامج الاقتصادية والاجتماعية والمشروعات القومية المزمع تنفيذها والتى تحتل معا أكثر من مائة وخمسين صفحة من صفحات البرنامج المائتين، بينما لا يحظى كل من موضوعى الأمن القومى والديمقراطية إلا بثلاث صفحات يغلب عليها الطابع الإنشائى. ولعل هذا تعبير عن أن الحكومة لم تعد معنية فى الواقع إلا بالإدارة الاقتصادية وبتقديم الخدمات وتنفيذ المشروعات، وليس بمجمل السياسات العامة. كذلك فإن هذا يعنى استمرار الاعتقاد السائد فى الدولة بإمكان إدارة الاقتصاد من منظور فنى محض لا شأن له بالوضع السياسى، بينما الحقيقة أن الخروج من أزمة البلد الاقتصادية لن يكون ممكنا بعزل عن إطار سياسى سليم.
الملاحظة الثانية إنه حتى على الجانب الاقتصادى، وبرغم ما يذخر به البرنامج من بيانات وأرقام ورسومات بيانية، إلا أنه فى الحقيقة لا يقدم رؤية اقتصادية واضحة ولا تصورا محددا حول اتجاه الدولة مستقبلا، بل كشفا تنفيذيا للمشروعات والبرامج التى تنوى الحكومة القيام بها. صحيح أن البرنامج ينص «صفحة ٣٤» على أن الحكومة سوف تعمل على أن يكون الاقتصاد المصرى «اقتصاد سوق منضبط، يتميز باستقرار أوضاع الاقتصاد الكلى، وقادرا على تحقيق نمو احتوائى مستدام»، إلا إن هذه العبارات الفضفاضة تثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من الإجابات، وخاصة حول دور الدولة فى التنمية الاقتصادية، ومستقبل القطاع العام، ودور القطاع الخاص، والإصلاحات المؤسسية المطلوبة، وأولويات الإنفاق العام، وتطوير الجهاز الإدارى للدولة وغيرها.
أما الملاحظة الثالثة والأكثر مدعاة للقلق فهى التناقض الواضح ــ أو لنقل على الأقل عدم الاتساق بين الجانبين الاقتصادى والاجتماعى من البرنامج، بما يعطى انطباعا بأن حكومتين مختلفتين قد كتب كل منهما الشق الخاص به بمعزل عن الآخر. الحكومة الاقتصادية تستهدف فى الأساس إعادة التوازن المالى والنزول بعجز الموازنة العامة خلال عامين والنصف المقبلين إلى ٩٪ بما يتطلبه ذلك من زيادة فى الضرائب «القيمة المضافة والعقارية» وتخفيض دعم الطاقة والحد من زيادة الأجور الحكومية. أما الحكومة الاجتماعية بما تعد به من إنفاق إضافى فى مجالات الإسكان والصحة والتعليم والشباب والثقافة والتنمية المحلية فسياستها توسعية إلى أقصى الحدود وتحتاج موارد لا تتفق مع ما يمكن توقعه. فإذا أضفنا إلى ذلك الإنفاق المطلوب على المشروعات القومية العملاقة، فإننا نكون أمام أهداف متناقضة لا أتصور إمكان تحقيقها كلها معا.
الملاحظة الرابعة تتعلق بالمشروعات القومية العملاقة التى تعتزم الحكومة تنفيذها والتى تأتى ضمن سياستها الاقتصادية. فبدلا من أن يكون هناك توضيح للمنطق الذى تم بموجبه اختيار هذه المشروعات وتحديد أولويات تنفيذها، فإننا نجد عشرات الصفحات التى تصف هذه المشروعات وصفا هندسيا دون ذكر لتكلفة العديد منها، ولا مصادر تمويلها، ولا العوائد التى سوف تحققها، ولا طبيعة ملكيتها، ولا تحديد دور كل من الدولة والقطاع الخاص فى تنفيذها.
والملاحظة الخامسة تخص الاستثمار. وللأسف أن البرنامج يكرر ذات السياسة التى اتبعتها الحكومة طوال العامين الماضيين والتى لم تحقق نجاحا مذكورا، إذ لا يزال البرنامج الحكومى يكرر الحديث عن تفعيل قانون الاستثمار الصادر فى شهر مارس الماضى، وعن ثورة فى الإجراءات، وعن إزالة جميع المعوقات، بينما هذا الأسلوب فى التعامل مع قضية الاستثمار والتجاهل المستمر لمعوقاته ومشاكله الحقيقية هو ما أوصلنا إلى الحالة الراهنة من التباطؤ الاقتصادى والعجز عن إطلاق طاقات المجتمع الإنتاجية وعن توفير فرص العمل وزيادة الصادرات. ومع ذلك عندى أمل أن يكون لدى وزيرة الاستثمار الجديدة، المعينة قبل الاعلان عن البرنامج الحكومى بيومين والأرجح لم تشارك فى كتابته، أفكار مختلفة واستعداد لتغيير هذا المسار الذى ثبت فشله.
الملاحظة السادسة تخص قضية العدالة الاجتماعية. وهنا نجد أن الوثيقة المعروضة على البرلمان تقدم مجموعة كبيرة من البرامج الرامية إلى توفير قدر من الحماية الاجتماعية للمواطنين، وأبرزها وأكثرها اتساقا ووضوحا برنامجا «كرامة» لحماية المسنين وأصحاب الإعاقة و«تكافل» لحماية الأسر الأكثر فقرا، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق على الخدمات العامة. وهذا كله مطلوب ويجب أن يكون محل ترحيب، ولكنه ليس كافيا لتحقيق التقدم المنشود فى مجال العدالة الاجتماعية. الحماية شىء والعدالة شىء مختلف تماما. الأولى تعنى توفير معاشات وضمانات للفئات الأضعف فى المجتمع ومحاولة إخراجها من الفقر المدقع، وهذا ضرورى ولا غنى عنه. أما الثانية، أى العدالة، فتعنى العمل على إزالة الأسباب التى تجعل الهوة الشاسعة بين الفقراء والأغنياء تزداد اتساعا. ولذلك فان كان منح الفقراء والمعدومين معاشات ومخصصات إضافية أمرا محمودا وضروريا فى الظروف الاقتصادية الراهنة، فإن منح أبنائهم وبناتهم الفرصة والأدوات للتعليم والتقدم والعمل هو ما يخرجهم من دائرة الفقر. هذا المفهوم غائب عن البرنامج الحكومى، بينما هو الوسيلة الوحيدة للانتقال من الحماية إلى العدالة الاجتماعية.
وأخيرا فان الملاحظة السابعة تتعلق بالتعليم. وبرغم إننى لم أكن أنوى التطرق إلى تفاصيل أى من الخدمات العامة نظرا لضيق المساحة، إلا إن السكوت على الجزء الخاص بالتعليم ليس ممكنا. فبينما يتفق الجميع على أن إصلاح الوضع المتأزم للتعليم فى مصر يجب أن يحتل الأولوية المطلقة والأولى فى اهتمام الحكومة، إلا أن البرنامج المعروض فى هذا المجال لا يكاد يتضمن فكرة واحدة جديدة ولا مبادرة جدية ولا حتى محاولة لتغيير ما هو قائم، بل إن الصفحات الثمانى الخاصة بالتعليم تكاد تبدأ كلها بتعبير «الاستمرار فى...» أو «استكمال...» وكأن ما يجرى تطبيقه الآن هو السياسة المثلى التى لا ينبغى أن نحيد عنها.
وهذا وضع غير مقبول، لأن الدولة لا يمكن أن تكون مشغولة فقط بإقامة الطرق والكبارى والمدن الجديدة، وليس فى نيتها عمل أى شىء أو تبنى أى إصلاح حقيقى فى مجال التعليم.
فى النهاية فإن البرنامج يقرب أن يكون تجميعا للمشروعات والبرامج التى تنوى كل وزارة أن تقوم بها منه إلى وثيقة واحدة يحكمها تصور واتجاه واحد. وأخشى أن يكون هذا ليس مجرد ضعف فى تحرير الوثيقة النهائية بل تعبير عن غياب التنسيق والتكامل والاتساق بين الوزارات والهيئات المختلفة داخل الدولة، وهو أكثر ما نحتاجه اليوم.