أثار وباء كورونا العالمى نقاشا واسع النطاق بين المتخصصين فى العلاقات الدولية والمهتمين بالشئون العامة عن أثره على العلاقات فى النظام الدولى وتطورها، وعن حاضر ومستقبل العولمة. النقاش نتيجة طبيعية لسرعة انتشار الفيروس والمرض الذى يتسبب فيه فى العالم، وكذلك لمراقبة السياسات المتخذة لمواجهة الوباء والقضاء عليه. انقسم المتخصصون والمهتمون ما بين مركزين على الصراع الذى نشأ بين الدول القومية فى تصديها للوباء وهم من شددوا على أن التعاون الدولى سيتراجع ليفسح المجال للدول القومية تتحرك فيه بحرية لتواجه كل منها على حدة آثار مثل هذا الوباء فى المستقبل. آخرون رأوا أنه لن يكون ثمة سبيل فعال لمواجهة هذا الوباء وأمثاله وآثارها الاقتصادية والاجتماعية إلا عن طريق التعاون الدولى. هؤلاء يعتقدون أن العلة الحقيقية التى يرجع إليها الصراع هى أن التعاون الدولى ليس كافيا. مستقبل العولمة كان أيضا موضوعا للنقاش، بين قائل بضرورة العودة عنها ومدعى بأنه لا رجعة ممكنة فيها. الحجج التى تطرحها كل مجموعة ومناقشتها هى موضوع هذا المقال الذى يصطف مع القائلين بأن التعاون الدولى سيفرض نفسه، وأن هذه ليست سذاجة أو مثالية، كما يطلق على مدرسة الاعتماد المتبادل فى تحليل العلاقات الدولية، بل هى الواقعية بعينها التى يزعم احتكارها أنصار المدرسة المحافظة.
المركزون على الصراع بين الدول أشاروا إلى تبادل الاتهامات عن المسئولية عن نشأة الفيروس وانتشاره عالميا وإلى أنانية الدول التى عنيت سياسات كل منها بمواطنيها أو فى أحسن الأحوال بالمقيمين فى أقاليمها متجاهلة احتياجات الدول الأخرى بما فى ذلك جاراتها وتلك التى تربطها بها علاقات تكاملية وثيقة. بالفعل، اتهم رئيس الولايات المتحدة الصين بأنها المسئولة عن نشأة ما أسماه بالفيروس الصينى وعزا مسئولون أمريكيون انتشاره السريع إلى امتناع الصين عن الإبلاغ عنه وإخفائها لحقيقة الوضع فى مقاطعة هوباى حتى وقت متأخر. فى الاجتماع الوزارى للدول الصناعية السبع فى الأسبوع الأخير من مارس أصر الوفد الأمريكى على أن يطلق على الفيروس فى البيان الختامى اسم «فيروس ووهان». فى المقابل، اتهم مسئول صينى الولايات المتحدة بأنها زرعت الفيروس فى الصين عندما شاركت بعثة أمريكية فى دورة الألعاب العسكرية المنعقدة فى ووهان فى شهر أكتوبر الماضى. حجة أخرى قدمتها هذه المجموعة بيانا على أنانية كل دولة قومية هى غيبة التعاون بين الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى وهى الدول التى قطعت أطول الأشواط ليس فقط فى التعاون بل وفى التكامل فيما بينها. لم يخف أحد إلى مساندة إيطاليا فى محنتها وتخاطفت الدول الأعضاء الكمامات فيما بينها.
***
ما سبق صحيح غير أن الاتهامات المتبادلة لم تمنع الرئيسين الأمريكى والصينى من أن يتحدثا هاتفيا عن مواجهة الفيروس ولا بيع الصين كمامات للولايات المتحدة عندما اشتدت آثار الوباء فيها. ربما قال أحدهم إن هذه مجرد تجارة، ولكن التجارة هى نفسها من أوجه التعاون، وعرقلتها هى التى تعتبر مظهرا للصراع. الاتجار الهائل بين الصين والولايات المتحدة هو أفضل الأمثلة على التعاون فيما بين البلدين رغم ما يتخلله من حرب تجارية. أما البيان الختامى لقمة الدول الصناعية السبع فهو لم يصدر حيث رفضت الدول الأخرى طلب الولايات المتحدة، حليفتها الكبرى، وفضلت التعاون على الصراع مع الصين. إيطاليا، وهى من الدول السبع، استقبلت أطباء من الصين كما سيرد لاحقا. أما عن العلاقات بين الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى، فيجدر التنويه بأن فرنسا أرسلت مرضى بكوفيدــ19 إلى ألمانيا ولكسمبورج للعلاج، والرد الأهم هو أن مجال الصحة مازال من اختصاص الدول الأعضاء وهو لم ينتقل إلى اختصاص الاتحاد بما يؤدى إليه ذلك من سياسة صحية تكاملية مشتركة. عوضا عن انفراط عقد الاتحاد كما يتنبأ القائلون بتعزيز الدول القومية، من يتوقعون أن التعاون الدولى سيسود يرون أن الأزمة الحالية قد تؤدى إلى اتساع رقعة التكامل فى الاتحاد لتشمل الصحة العامة. فى النظرية الأصلية التى استخلصت من تجربة التكامل الأوروبى، رقعة التكامل الوظيفى تتسع كلما استدعى تحقيق كفاءة السياسات ذلك.
المجموعة التى تظن أن التعاون الدولى موجود وأنه لا مناص عن تعزيز التعاون الدولى متعدد الأطراف لمواجهة مثل أزمة كورونا لديها شواهد تستند إليها. أول هذه الشواهد هو أنه لم يلتفت الناس فى العالم أجمع من قبل إلى منظمة الصحة العالمية مثلما التفتوا إليها واعتبروها مرجعهم فى الأسابيع الأخيرة. حتى الرئيس الأمريكى غير المعروف بأى ود تجاه منظومة الأمم المتحدة والتعاون الدولى متعدد الأطراف عموما بدأ واحدا من مؤتمراته الصحفية فى يوم من أيام الأسبوعين الماضيين بالإشارة إلى منظمة الصحة العالمية. صدرت عن الدول الأعضاء فى المنظمة اللوائح الصحية الدولية فى سنة 2005 بمناسبة انتشار وباء المتلازمة التنافسية الحادة والوخيمة (سارس)، وهى اتفاقية دولية ملزمة للدول الأطراف فيها، تفرض عليها الإبلاغ عن نشوء الأوبئة فيها وعدم إغلاق مجالاتها الجوية ومطاراتها عندما تتحول إلى أوبئة عالمية. صحيح أنه توجد شبهة بعدم الإبلاغ المتعمد عن نشوء الوباء وأن الدول لم تحترم التزاماتها وأغلقت مجالاتها الجوية لحماية مواطنى كل منها. غير أن المتوقعين لتعزيز التعاون الدولى يرون أن العيب لا يكمن فى عدم جدوى التعاون الدولى بل هو فى عدم كفاية هذا التعاون وفى غيبة آلية لتنظيم العمل المشترك من أجل تحقيق المصلحة الدولية العامة. حجة إضافية لدى بعض من يرون أن المستقبل للتعاون الدولى تستند إلى أنه من الآن فصاعدا ستنشأ الأوبئة العالمية دوريا، بل إن الوباء الحالى قد تخف حدته فى منطقة من العالم ويشتد فى غيرها ثم تتبادل هذه المناطق مواقعها من الوباء. خبراء أمريكيون يقولون إن بلادهم، القوة الأكبر فى العالم، وحتى بعد تطبيق قانون الإنتاج من أجل الدفاع الصادر فى سنة 1950 وتحول مصانع كبرى إلى إنتاج أجهزة التنفس، لن تستطيع تلبية الطلب الذى سيتزايد على هذه الأجهزة فيها، وهو ما ينبغى علاجه باستيراد أعداد كبيرة منها، فيما يشبه الجسر الجوى، من شرق آسيا حيث توجد الطاقة على إنتاجها وحيث يبدو الفيروس فى تراجع. مركز أكاديمى أمريكى نشر نتائج دراسة بينت أن فى العالم أجمع، بما فيه الدول المتقدمة، عجزا حادا فى العاملين فى المهن الطبية من أطباء وممرضين ومساعدين وغيرهم، وهو ما يستدعى وضع خطة لمواجهة الأوبئة العالمية التى ستتكرر فى المستقبل، على أن يكون فى صلب الخطة سرعة الحركة وتيسيرها حتى تنتقل الأفرقة الطبية إلى المناطق التى تنتشر الأوبئة فيها بمجرد ظهور الحاجة إليها. العجز الهائل الملموس فى العاملين بالمهن الطبية فى كل من العالم النامى، والذى يسبب ذعرا فى الوقت الحالى من انتشار الوباء فيها، وكذلك فى الدول المتقدمة يبين سلامة تقدير المركز الأمريكى للمتاح من العاملين فى المهن الطبية. الخطة التى يدعو إليها المركز واقعية تماما وهى شكل من أشكال التعاون الدولى المتقدم. بذور لمثل هذا التعاون تبدت فى استقبال إيطاليا لأطباء من الصين وألبانيا وكوبا للمساعدة فى التصدى للكارثة التى حلت بها.
***
تبقى مسألة «العولمة» وهى مصطلح يطلق على مفهومين، الأول هو عملية الترابط والتشابك بين الاقتصادات والمجتمعات والناشئة عن الثورة العلمية والتكنولوجية المتسارعة الحالية، خاصة فى مجالى النقل والاتصالات. فى حقيقتها هذه عملية متواصلة تكثفت فى ربع القرن الأخير فاكتسبت مصطلحا خاصا بها ولكنها تاريخية وكانت لها محطات عظيمة الأهمية فى القرون الماضية مثل الدوران حول رأس الرجاء الصالح، واكتشاف البخار كقوة محركة للسفن، واختراع التلغراف. المفهوم الثانى «للعولمة» هو ذلك الذى يتعلق بالقواعد الحاكمة لها فى مجالات تجارة السلع والخدمات وانتقال رأس المال والمعرفة، وما يرتبط بهذه القواعد ويعززها من سياسات اقتصادية نيو ليبرالية تؤدى إلى الاتساع المستمر فى التفاوت بين الثروات والدخول، فيما بين الدول وفى داخل كل دولة. من الأدوات الأيديولوجية لهذه السياسات التنكيل المستمر بالدولة وتحقير الدور الذى تلعبه ويلعبه القائمون بتسييرها فى تلبية احتياجات المواطنين فى كل بلد، وهى تلبية لا تتأتى إلا بإعادة توزيع الموارد التى تخصصها السوق الحرة للمستفيدين منها وللعاملين فيها، ومن ضمن هذه الاحتياجات تلك الخاصة برعايتهم الصحية. الأزمة الراهنة كشفت عن تهافت أنظمة الرعاية الصحية فى البلدان النامية، بالطبع وللأسف، ولكن كذلك فى عدد من البلدان المتقدمة، خاصة أكثرها تقدما، وهى الولايات المتحدة، وفى قلب الرأسمالية مدينة نيويورك.
المفهوم الأول «للعولمة» الناتجة عن التقدم العلمى والتكنولوجى يصعب الرجوع فيه بل وليس من المصلحة هذا الرجوع. انظر مثلا إلى الصين التى تعتبر حلقة أساسية فى السلاسل العالمية لإنتاج الصناعات الدوائية، والسيارات، والطيران، والإلكترونيات، والاتصالات. هل يمكن العودة لأن ينتج كل بلد ما يحتاجه من هذه الصناعات على الرغم مما سينشأ عن هذه العودة من ارتفاع تكلفة الإنتاج وانخفاض كفاءته نتيجة لصغر نطاق الإنتاج؟ بل هل هذا معقول أصلا فى عالم يتزايد تقاربه بفعل الطيران والإلكترونيات والاتصالات؟
المطلوب هو إعادة جذرية فى النظر فى المفهوم الثانى «للعولمة»، أى فى القواعد الحاكمة لعملية التقارب والتشابك. حرية كل من التجارة وانتقال رأس المال يجب ألا توسع الهوة بين البلدان المتقدمة والنامية وألا تحرم هذه البلدان النامية من قدرتها على تحقيق النمو والتنمية بل يجب أن تمكنها من تحقيقهما. والسياسات الاقتصادية النيو ليبرالية التى خدمت القواعد الحاكمة للعولمة وعززتها لا بد من الرجوع فيها وإعادة الاعتبار للأدوار التى تلعبها الدولة وزيادة الإنفاق عليها، بما فى ذلك الإنفاق على الصحة العامة، والتعليم، والإسكان، والتشغيل، لأن الارتفاع بمستويات المواطنين فى هذه المجالات هو الكفيل بمقاومة الأوبئة وغيرها من محن ستواجه البشرية، بلا تفرقة بين المميزين فيها والمميز ضدهم. من حسن الحظ أن الحكومات فى البلدان المتقدمة والنامية، بدءا بالولايات المتحدة نفسها، قد رفعت من مستوى إنفاقها العام تحت وطأة الأزمة دون أن ينبس النيو ليبراليون ببنت شفة. هذا فى حد ذاته إعادة للنظر فى السياسات الاقتصادية المطبقة فى العقود الأربعة الأخيرة وهى السياسات المرتبطة بحوكمة العولمة.
لن يكون سهلا تحويل الممارسات الأخيرة إلى التزامات متفق عليها. سيقابل هذا التحويل بمقاومة قد تستغرق وقتا ولكن تعزيز التعاون سيسود فى النهاية.
ألا ينجح تعزيز التعاون الدولى ستكون له نتائج وخيمة، كل الجهود ضرورية لتفاديها.
استاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة