تحتفل منظمة العمل الدولية فى العام الحالى 2019 بمرور مائة عام على إنشائها. ليست مصادفة أن يقع هذا الاحتفال فى نفس سنة الاحتفاء بالعيد المئوى لثورة سنة 1919. المصريون أرادوا إرسال وفد يمثلهم ويطالب باستقلالهم إلى مؤتمر السلام المنعقد فى فرساى بالقرب من باريس، فلما رفض طلبهم ثاروا على المحتل حتى أعلن إنهاء حمايته لمصر. نفس هذا المؤتمر هو الذى أنشأ منظمة العمل الدولية. المؤتمر كان قد خصص لجنة للتباحث فى شئون العمل ولتنظيمه على المستوى الدولى بغية تحقيق العدالة الاجتماعية التى اقتنع المؤتمرون تحت ضغوط الحركة العمالية الأوروبية ــ وقد انتهت الحرب العالمية الأولى ــ بأنه لا سلام بدونها. السلام الدولى والسلام الداخلى متلازمان والواحد منهما لا يتحقق بدون الآخر. السلام ضرورى لتجنيب البشر ويلات الحروب، ولكنه لا يتحقق بمجرد ذلك. غيبة النزاعات والحروب ليست السلام. السلام هو فى إحساس البشر بالعدالة. يوم 28 إبريل الماضى كان هو الذكرى المئوية لاعتماد مؤتمر فرساى لدستور منظمة العمل الدولية الذى كان ثمرة لجنتها المختصة بالعمل، وصار الباب الثالث عشر من معاهدة السلام.
مؤتمر فرساى أنشأ منظمتين أخريين إلى جانب منظمة العمل الدولية وهما عصبة الأمم ومحكمة العدل الدولية الدائمة، ولكن هاتين الأخيرتين لم تصمدا للحريق العالمى الثانى فيما بين 1939 و1945. سقطت المنظمتان وكانت قواعد عملهما وراء هذا السقوط. الولايات المتحدة، التى كانت وراء إنشاء العصبة لم تنضم إليها قط. وألمانيا والاتحاد السوفيتى انضما إليها ثم خرجا منها، وكذلك انفصلت عنها اليابان وإيطاليا، كل لأسباب مختلفة ليس هذا المقام لاستعراضها. قواعد عمل العصبة وتوزيع القوة داخلها وخارجها كانت وراء فشلها فى التعامل مع غزو إيطاليا للحبشة ومع الحرب الأهلية الإسبانية ومع غير ذلك من أزمات حتى كان فشلها الأكبر فى درء قيام الحرب العالمية الثانية. فشل عصبة الأمم فى تأمين التعاون بين أعضاء المجتمع الدولى، لكى تنتفى النزاعات بينهم وليسود السلام، أدى إلى حلها فى سنة 1946. ولكن هذا لم يكن نصيب منظمة العمل الدولية. فى نفس سنة 1946 أضيف إلى دستور المنظمة الإعلان الصادر فى فيلادلفيا فى سنة 1944، وهو الإعلان الخاص بأهداف ومقاصد المنظمة، الذى منحها نفحة جديدة وهيأها لعالم آخر، اختلف عن ذلك الذى نشأت فيه قبلها بخمس وعشرين سنة.
المجتمع الدولى، وهو يقيم أسس التنظيم الدولى الحديث فى سنة 1945 وينشئ منظمة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، رأى وجاهة فى استمرار منظمة العمل الدولية ووثق فى طرائق عملها وفى قدرتها على بلوغ أهدافها المتمثلة فى تحسين شروط العمل وظروفه وفى تحقيق العدالة الاجتماعية.
التنظيم الدولى هو التعبير عن التعاون الدولى، وهو المؤسسات التى يمر عبرها هذا التعاون. التعاون الدولى ضرورى لتحسين شروط العمل وظروفه. المنطق فى ذلك هو أنه لا يمكن تحسين هذه الشروط فى بلد دون آخر أو فى كل بلد على حدة. لنأخذ بلدين اثنين كمثال. إن تحسنت شروط عمل العمال فى واحد منهما بتخفيض عدد ساعات العمل فيه مثلا ولم تنخفض ساعات العمل فى البلد الثانى، فإن هذا البلد الثانى سيكون فى وضع تنافسى أفضل فيخسر البلد الأول الذى كان حريصا على عدم استغلال العمال وعلى صحتهم وعلى التوازن بين مسئولياتهم فى العمل وفى غير ذلك من مناحى الحياة. من هنا اعتمد دستور منظمة العمل الدولية اتفاقيات العمل الدولية التى تنضم إليها الدول طواعية كوسيلة لعملها. الدول الأعضاء تلتزم بمقتضى الاتفاقيات باحترام نفس شروط العمل وظروفه سواء كانت ساعات العمل، أو الراحة الأسبوعية، أو حظر العمل الجبرى، أو المساواة وعدم التمييز فى العمل، أو الحرية النقابية، أو الضمان الاجتماعى، أو العمر الأدنى للعمل، أو غير ذلك كثير. اتفاقيات العمل الدولية تبلغ الآن 189 اتفاقية. الاتفاقيات وتوصيات العمل الدولية تشكل معا معايير العمل الدولية وهى المكون الأكبر والأهم فى القانون الدولى للعمل الذى لعبت المنظمة دورا جوهريا فى تنميته وانتشار تطبيقه. والمعايير ليست وسيلة العمل الوحيدة المتاحة للمنظمة. مثلها مثل المنظمات الدولية الأخرى نشاط المنظمة يتخذ شكل التعاون التقنى، أى المساندة الفنية فى تصميم أنشطة بعينها وتنفيذها حتى تكتسب الدول الأعضاء الخبرة الضرورية لكى تضطلع هى وحدها بهذه الأنشطة. ومثل المنظمات الأخرى أيضا هى تيسر تبادل الخبرات والتجارب بين الدول الأعضاء، وتجرى الدراسات فى الموضوعات الواقعة فى مجال اختصاصها وتنشرها، كما أنها الملتقى الذى يجتمع فيع الأعضاء لكى يتعارفوا ويتشاوروا ويتفاوضوا بخصوص العمل بشكل عام وبشأن موضوعاته المختلفة المحددة بشكل خاص.
مؤتمر العمل الدولى ومجلس إدارة مكتب العمل الدولى والمكتب ذاته هم الأجهزة الدستورية للمنظمة، أى تلك التى ينص عليها دستورها. مكتب العمل الدولى هو أمانة المنظمة، على رأسه مديره العام ويعمل موظفون دوليون متخصصون فى شئون العمل، ومن هنا اعتبار المنظمة واحدة من الوكالات المتخصصة فى منظومة الأمم المتحدة التى تختص كل منها بجانب من جوانب التعاون الدولى فى مجالات مثل التربية والعلوم والثقافة، والأغذية والزراعة، والصحة، والتنمية الصناعية، والملكية الفكرية، وغيرها. المكتب يعمل على تنفيذ مقررات مؤتمر العمل الدولى ومجلس الإدارة وعلى التحضير لاجتماعاتهما، وعلى مساندة الدول الأعضاء على الوفاء بتعهداتها بمقتضى الدستور واتفاقيات العمل الدولية التى اختارت أن تصدق عليها، وعلى بلوغ أهداف الدستور. بلوغ هذه الأهداف لا يعنى الاقتصار على النشاط فى شئون شروط العمل وظروفه ومساعدة الأجهزة الإشرافية على متابعة تطبيق الاتفاقيات المصدق عليها. مكتب العمل الدولى، الذى كثيرا جدا ما يجرى الخلط بينه وبين المنظمة، يعمل أيضا فى مجال التشغيل وسياساته، وفى مجال التدريب واكتساب المهارات، وفى مجال التأمينات الاجتماعية، وفى مجال الأجور، وفى مجال قوانين العمل وإداراته، وفى مجال إحصائيات العمل، وغيرها، وفى موضوعات مثل التشغيل غير المنظم، والتعاونيات، والمساواة، والهجرة الدولية من أجل العمل، وإنشاء المنشآت الصغيرة والمتوسطة وإدارتها، وما عداها.
الإشارة إلى المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وهى منشآت قطاع خاص، يثير مسألة طبيعة المنظمة. هل هى منظمة للعمال؟ هذا ما يظنه البعض بل إن منهم من يعتقد أنها تخص العمال اليدويين وحدهم، بل والأقل مهارة منهم فقط. غير أن هذا غير صحيح. بالفعل قامت المنظمة لتحسين ظروف عمل العمال كلهم، اليدويين والذهنيين، ومعيشتهم. غير أن تحسين هذه الظروف فى مصلحة أصحاب العمل أيضا لأن ارتياح العمال يرفع من مستوى مردود عملهم وإنتاجيتهم. وتحسين هذه الظروف لا يتحقق إلا إن شارك فيه أصحاب العمل. التشارك بين أصحاب العمل والعمال وتحقيق ارتياح هؤلاء لظروف عملهم فى مصلحة الحكومات كذلك لأنه يؤدى إلى الاستقرار والسلام الاجتماعى. من هنا البنية الثلاثية للمنظمة التى تتميز بها بين كل المنظمات الدولية فأعضاؤها عن كل دولة ــ إلى جانب الحكومة ــ هم المنظمات الممثلة لأصحاب العمل والعمال. هذه المنظمات تتفاوض فيما بينها، فى حضور الحكومات أو عدمه حسب النظام المتبع فى كل دولة، بشأن شروط العمل وظروفه، فى الاقتصاد الوطنى كاملا أو على المستوى القطاعى أو الإقليمى. على المستوى الدولى تتفاوض المنظمات الدولية غير الحكومية الممثلة لأصحاب العمل والعمال والحكومات على إصدار اتفاقيات العمل الدولية وتوصياتها وعلى مراقبة تنفيذها، بمجرد مساندة مكتب العمل الدولى وإنما بغير مشاركته. اشتراك منظمات العمال، أى نقاباتهم، فى التفاوض مع منظمات أصحاب العمل، ليس القصد منه عرقلة الإنتاج. غرضه هو تحقيق التفاهم من أجل تحقيق الاستقرار وزيادة هذا الإنتاج. جدير بالذكر أن مكتب العمل الدولى يساند منظمات أصحاب العمل والعمال فى الدول المختلفة ويدعمها فنيا لتؤدى وظائفها بكفاءة.
فى خلال قرن من الزمان، مرت منظمة العمل الدولية بعدة مراحل. بعد نشأتها بخمسة وعشرين عاما صدر إعلان فيلادلفيا المشار إليه آنفا ليكون بداية لمرحلتها الثانية التى شهدت الحرب الباردة وتصفية الاستعمار وما نتج عنها من تغيير فى المجتمع الدولى وفى طبيعة التنظيم الدولى والموضوعات التى تشغله. فى العقد الأخير من القرن العشرين، بعد سقوط المعسكر الاشتراكى وترسخ السياسات الاقتصادية النيوليبرالية وزحف العولمة، بدأت مرحلة ثالثة اقترنت بصدور إعلان جديد فى سنة 1998 هو إعلان منظمة العمل الدولية بشأن المبادئ والحقوق فى العمل.
مع نهاية العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، تبدأ مرحلة رابعة سمتها هى البحث فى «مستقبل العمل» مع ما يعرفه العالم من تغيرات علمية وتكنولوجية يعتبر فيها البعض أن الذكاء الاصطناعى و«الروبوتات» سينافسون الإنسان على فرص العمل وهم بذلك سيعرضون الاقتصادات والمجتمعات لأزمات غير مسبوقة تتعلق بتوليد الدخل وتوزيعه، أى تهدد بقاء الاقتصادات والمجتمعات ما لم تُدخل تغييرات جوهرية على طرائق عملها. الموضوع عريض وعميق ومناقشته بالكاد بدأت. منظمة العمل الدولية كائن حى وهى لذلك كانت أول من تصدى «لمستقبل العمل» فشكلت لجنة من أعضاء مستقلين للتداول بشأنه أصدرت تقريرها فى يناير الماضى.
هنيئا للعمال وأصحاب العمل فى مصر والعالم بعيد منظمتهم، وليدعموها من أجل سلام العالم ومصلحة البشر فى قرنها الجديد.