ورأى «الشعب» ذلك غير حسن - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ورأى «الشعب» ذلك غير حسن

نشر فى : الإثنين 4 يونيو 2012 - 8:25 ص | آخر تحديث : الإثنين 4 يونيو 2012 - 8:25 ص

دخل مبارك طرة بحكم بالسجن المؤبد فى سابقة تاريخية هى الأولى لحاكم فى العالم العربى، وربما العالم. لكن التحرير امتلأ عن آخره وعاد المتظاهرون للشوارع فى محافظات مصر، بعد أن تخيل البعض أن الانتخابات هى المسار الوحيد للسياسة، وأنها أنهت أى مجال للحشد الجماهيرى الواسع. كان التحرك عفويا، كما كان العهد فى الأيام الأولى لثورة يناير، وتبعه السياسيون على استحياء لتعود الحشود لتصدر المشهد ويتراجع المرشحون الرئاسيون وأعضاء اللجان التأسيسية والمحللون الاستراتيجيون وفقهاء القانون إلى هامشه، كعهدهم حينما يصنع الناس التاريخ ويمهدون الأرض للتغيير. لا يفهم المحتجون بالضرورة فى القانون وليسوا حاصلين على الشهادات فى العلوم السياسية، لكنهم عرفوا، ببصيرتهم وحسهم وتطلعهم للعدالة وللتغيير الثورى، أن هذا الحكم لا يكفى.

 

 سياسية المحاكمة وتناقضات الحكام

 

لا يمكن إنكار أن الحكم والمحاكمة «سياسيان» بامتياز. ولا يتعلق الأمر هنا باستقلال القاضى أو تدخل المجلس العسكرى فى قراره، كما يحاول البعض أن يتهم من يقولون بذلك، ليجبر الشارع على الاستكانة، على اعتبار أنه لا احتجاج على أحكام القضاء والمحاكم. المحاكمة سياسية لأنها جاءت بعد ثورة أطاحت بهذا الديكتاتور بعد 30 عاما من حكم الفساد والقمع (حتى القاضى لم يستطع تجاهل هذا فى كلمته التى سبقت الحكم)، وهى سياسية لأن حوادث القتل العمد محل النظر لم تكن فى قضية سطو أو حادثة شرف. لكنها كانت فى مواجهة سياسية مباشرة. وهى كذلك لأنها جمعت مالا يجتمع فى قضاء عادي: قتل متظاهرين واستغلال الوظيفة العامة فى قضية فيللات شرم الشيخ وتصدير الغاز لإسرائيل. والمحاكمة سياسية لأنها لم تكن لتبدأ أصلا دون المليونيات التى انتزعت مبارك من مكمنه الفاخر فى شرم الشيخ مجبرة حكام البلد على توجيه التهم إليه. والمحاكمة سياسية لأن مآلها فى النهاية لم يستطع تجاوز تناقضات طبقة الحكم وسقف مصالحها.

 

فى جلسة إعلان الحكم، هاجم المستشار أحمد رفعت النيابة متهما إياها بأنها لم تقدم الأدلة الكافية. وبدورها كانت النيابة قد هاجمت فى مرافعتها الداخلية والمخابرات قائلة إنهما لم يتعاونا فى توفير المعلومات والأدلة المطلوبة. وفى كلمته التى سبقت إعلان الأحكام  يقول القاضى بالنص، بعد أن تحدث عن تعهد المحكمة بإعطاء الجميع الفرصة تلو الفرصة ليستريحوا لتقديم وجهات نظرهم، إن المحكمة «استمعت لشهود الإثبات الذين قدمتهم النيابة ورأت من اتهم بالشهادة الزور ومن تم مدحه فى الشهادة ومن اتهم بضياع أجزاء فى المحاكمة، فلم تجد المحكمة إلا إظهار الحقيقة وتبيان الحق فى الدولة واستدعت كبار المسئولين فى الدولة ووجدت فى شهادتهم احقاق الحق وما يزيل عنها الغموض فى الدعوى وشهادتهم أمام الله وأمام المحكمة». وهكذا يتأكد لنا مرة أخرى الطابع السياسى للمحاكمة، التى اعتمدت على «حقانية» شهادة كبار المسئولين بالدولة، التى يقوم ضدها الادعاء فى الأصل.

 

وبالنظر للتبعات السياسية للحكم تتكشف تناقضات الحكام واضحة. الحكم يضع مبارك والعادلى فى السجن المؤبد لكنه يعفى أركان نظامه من المسئولية: ببراءة جمال وحسين سالم وقيادات الداخلية. وتعالوا ننظر للجانب السياسى المحض: هل كان من الممكن أن تسمح تركيبة حكم مصر الحالية بأكثر من ذلك حتى وإن أرادت؟

 

لا جدال أن مساعدى العادلى كانوا ركنا أساسيا فى نظام القمع وفى صيانة استبداده بالسيطرة على الحياة السياسية بل وعلى المجتمع المدنى بأكمله. ركن استخدم التعذيب والاعتقال المفتوح وتدخل فى اختيار الوظائف العامة والخاصة. بل وامتدت هيمنته للسياسة الخارجية. وربما كان هناك بعض التناقض فى المصالح بين هذه الهيمنة المتزايدة وبين أجهزة سيادية أخرى فى الدولة خلال حكم مبارك. لكن وجود هذا التناقض لا يسهل مهمة هذه الأجهزة فى الاستجابة لضغوط الثورة والشارع فى تصفية هذا الجهاز القمعى. فالترابط قديم والخدمات متبادلة والمصالح الاستراتيجية اتحدت لوقت طويل: وهكذا يجيء السقف السياسى الذى لا قدرة على تجاوزه: لا يمكن إصلاح الداخلية هيكليا، ولا إدانة من تقدموا الصفوف منها للدفاع عن النظام (سواء كانوا من امناء الشرطة أم من مساعدى العادلي)  دون أن يعنى ذلك تفكيك المصالح المشتركة التى جمعت النظام كله، بما فيه أجهزة الدولة الأخرى، بل وربما مثول بعض ممن يتشدقون بالدفاع عن الثورة للمحاكمة. وهكذا كان بديهيا أن تتداعى شهادات أركان الدولة لبعضها البعض بالحماية.

 

يضطر نظام المصالح المستقرة، المتكلسة على مدى ثلاثين عاما،  لتقديم بعض التنازلات تحت الضغط الشديد، لكنه لا يمتلك لا الرغبة ولا القدرة للاستجابة لطموحات الشارع الثائر التى لا تأبه لتناقضات الحكام بل وتسعى للقضاء عليها وتجاوزها، وفى هذا فإن المحاكمة ليست المثال الوحيد.

 

 

 

لا يمكن للنظام إصلاح الأجور

 

فى كل الثورات الكبرى، وإلى جانب جاهزية الحركة الجماهيرية وبطولتها وطبيعة التوازن بين القوى الاجتماعية فى مواجهة الظلم والاستبداد السياسى والحرمان الاجتماعى، كانت هناك دائما قضايا أساسية وسمت تطلعات الحركة الجماهيرية ولخصت طموحاتها وفجرت تناقضات الحكام، ومن ثم حكمت تطور الأمور. فى الثورة الألمانية (19181923) كانت مسألة النضال ضد الحرب العالمية الأولى ثم الهزيمة فيها ومن ثم  التحول من القيصرية إلى الجمهورية، وفى انتفاضة الزاباتيستا المكسيكية كانت قضية فلاحى الريف الذين تحملوا عبء أزمة الديون الهائلة التى تسببت فيها الرأسمالية المكسيكية وتوجهاتها للاقتصاد المفتوح.

 

وفى روسيا 1917 كانت المسألة الفلاحية وقضية الأرض محورية إلى جانب قضية الديمقراطية. ولم يكن بمقدور السلطة الجديدة من الإصلاحيين، الذين حكموا روسيا بعد ثورتها الأولى فى فبراير 1917 أن يحلوا هذا التناقض بين ملاك الأرض (وهم حليف طبقى واضح) وبين الفلاحين الذين كان معنى التحرر بالنسبة لهم هو الحصول على الأرض. وكان انتصار الثورة فى المدن بقيادة الطبقة العاملة هو المسار الوحيد الذى يمكن من تحقيق هذا الهدف المحورى لأنه قدم البديل الوحيد للفلاحين الذى يستطيع أن يرسى قواعد نمط جديد من التنظيم الفلاحى يوّحد الفلاحين الفقراء والمتوسطين مع الطبقة العاملة وليس مع البرجوازية. فكان شعار الأرض لمن يزرعها الذى رفعه الثوريون حاسما فى تأييد الريف لثورة العمال ونجاحها فى أكتوبر.

 

وفى ثورة مصر تبرز قضيتان: التخلص من النظام القديم باستبداده وقمعيته، والعدالة الاجتماعية وفى صلبها الأجور. ومن الواضح صلة الأولى بالمحاكمة والقصاص من قتلة الشهداء، وقد تبين لنا سقف حكام مصر الحاليين ومرشحهم فى الانتخابات الرئاسية فى هذا الإطار. أما قضية الأجور فهى مثال آخر على ذلك لكنه يتعلق بنظام مصالح أعمق وأوسع.

 

الشارع يضغط واجماعه واضح على ضرورة فرض حد أدنى للأجور يكفل حياة إنسانية وفى مقابله حد أقصى للأجور يقلل التمايز الطبقى الهائل الذى خلقه نظام مبارك. على السلطة التى ترغب فى الاستجابة لهذا الطموح (وهو طموح الأجور فيه دالَّة لتغيير اجتماعى عميق) أن يواجه مصالح بيروقراطية فى أجهزة الدولة (وهى حليف قديم وثابت) من الموظفين الكبار والصغار المستفيدين من الأوضاع القديمة والحريصين على الإبقاء عليها. فرض حد أقصى للأجور ومد الرقابة على الصناديق الخاصة وترشيد الإنفاق العام، وهى خطوات ضرورية لتمويل الحد الأدنى للأجور والزيادات المطلوبة فى الإنفاق العام على الخدمات والتعليم والصحة ودعم العاطلين..الخ، سيعنى مواجهة مفتوحة مع هؤلاء. فرض الحد الأدنى للأجور فى القطاع الخاص، هو الآخر، يقتضى مواجهة أخرى غير سهلة على الإطلاق، مع حليف آخر متمكن فى الحكم هو رجال الأعمال. بل إن هذه الإجراءات لا تكفى لكى تحقق هدفها الذى تطمح له الجماهير فى العدالة إن لم تتوازى معها سياسات أخرى تسيطر على الأسعار بمواجهة الاحتكارات فى الإنتاج والتجارة الداخلية والاستيراد.

 

فهل تستطيع نخبة الحكم الحالية خوض هذه المواجهة دون أن تفكك التحالف السياسى الذى تقوم عليه؟ بل إن مرشح جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسى، ببرنامجه الذى يقوم على تحالف جديد من نخبة الأعمال وعلى نسخة مجددة من السياسات التى عمقت سيطرتهم على الحكم والعيش، لا يبدو قادرا ولا راغبا هو الآخر فى خوض هذه المواجهة لحساب تطلعات الثورة والثائرين. فكيف يجبر مرسى ومن خلفه التيار الذى يسيطر على الجماعة قيادات الأعمال على ضرائب تصاعدية أو إعمال أجور تقتطع من هوامش أرباحها فى نفس الوقت الذى يخطب فيه ودها للانضمام إلى حلفه السياسى الحاكم؟

 

يعنى هذا أن المواجهة مع الثورة ممتدة إلى مابعد الإنتخابات، ببساطة لأن طموحات الناس تتطلب تفكيكا مباشرا، لن يكون سهلا ولا ناعما للتحالفات السياسية والاجتماعية لا تستطيعه ولا ترغب فيه حقا إلا قوة مستندة على العمال والفلاحين والموظفين والطلبة والمهنيين الذين قاموا بالثورة. هذه المواجهة الحتمية هى ما يسمونه الثورة الدائمة.

 

●●●

 

يقول الشاعر العظيم أمل دنقل:

 

قلت: فليكن العدل فى الأرض؛ عين بعين وسن بسن

 

قلت: هل يأكل الذئب ذئبا أو الشاة شاة؟

 

ولا تضع السيف فى عنق اثنين: طفل وشيخ مسن

 

ورأيت ابن آدم يردى ابن آدم، يشعل فى المدن النار، يغرس خنجره فى بطون الحوامل،

 

يلقى أصابع أطفاله علفا للخيول، يقص الشفاه ورودا تزين مائدة النصر..وهى تئن

 

أصبح العدل موتا، وميزانه البندقية، أبناؤه صلبوا فى الميادين، أو شنقوا فى زوايا المدن

 

قلت فليكن العدل فى الأرض..لكنه لم يكن

 

أصبح العدل ملكا لمن جلسوا فوق عرش الجماجم بالطيلسان  الكفن.

 

.. ورأى «الشعب»   ذلك غير حسن!

 

 

 

هى «الرب» فى النص الأصلى. مع الاعتذار للشاعر الكبير

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات