القوات المسلحة وبناء الدولة فى مصر - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 5:38 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القوات المسلحة وبناء الدولة فى مصر

نشر فى : الأحد 4 سبتمبر 2016 - 9:50 م | آخر تحديث : الأحد 4 سبتمبر 2016 - 9:50 م
أدرك جيدا أنى بكتابة هذا المقال أسير على حقل ألغام، فليس من المأمون الحديث الصريح عن الدور الذى تقوم به القوات المسلحة فى النظام السياسى فى مصر، خصوصا عندما يتجاوز الكاتب المقولات ذات القبول العام عن الدور الوطنى للقوات المسلحة، ويتصدى لقضية حدود دور القوات المسلحة فى هذا النظام، وكيف يمكن لها أن تساعد فى بناء الدولة المصرية بكافة مؤسساتها، بل وفى دعم تطور المجتمع المدنى فى مصر، ودفع انتقال مصر إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة. ومع حساسية هذا النقاش إلا أن المثقف المهموم بقضايا الوطن لابد له وأن يتحمل مسئوليته بطرح القضايا الأساسية التى تحكم مسار هذا الانتقال، والتى لا تجد مكانا لها على ساحة النقاش العام على الرغم من التداول حولها فى شبكة التواصل الاجتماعى، وذلك أيا كانت مخاطر المبادرة بكشف الستار عما يجرى الهمس به خوفا وتحسبا من عواقب التصريح.

بداية لا يختلف كثيرون فى مصر حول الدور الوطنى لقواتها المسلحة فى عصرها الحديث. هم يذكرون كيف أن مجرد حمل المصريين شرف الجندية جاء فى العصر الحديث بعد فترة طويلة كان مثل هذا التميز قاصرا على الأقليات الأجنبية التى كانت تحكم مصر. وكانت طليعة المصريين فى هذا الجيش على عهد الخديوى إسماعيل، هى التى تصدت للسيطرة الأجنبية وهى التى ساندت الحركة الدستورية الناشئة منذ ستينيات القرن التاسع عشر. وكان تدخل القوات المسلحة لإنقاذ الوطن من أزمات كبرى فى يوليو 1952، ويناير 2011 ويونيو 2013 هو علامات أخرى على هذا الدور الوطنى. فى كل هذه اللحظات الثلاث الأخيرة لم يكن هناك مخرج آخر واقعى سوى بوقوف القوات المسلحة إلى جانب إرادة التغيير لدى أغلبية المواطنين.

***

هناك بكل تأكيد من يرى هذه المسألة على نحو مختلف، كأن يفضل استمرار الحكم المدنى فى يوليو 1952 أو منذ مارس 1954، أو تخلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن استئثاره بالسلطة بعد فبراير 2011، أو أنه كان من الأفضل الانتظار لحين انتهاء ولاية مرسى أو إجباره على تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة فى صيف 2013. ولكنى أظن أن أغلبية المصريين كانت راضية عن تدخل القوات المسلحة فى هذه اللحظات التاريخية الثلاث، ولكن من ناحية أخرى لا يبدو أن هناك إجماعا على حدود الدور الذى تقوم به القوات المسلحة عندما تصل إلى السلطة، بل ذهب البعض إلى أن ما جرى منذ يوليو 1952 كان عسكرة للمجتمع. لقد كان ذلك هو عنوان الكتاب الشهير الذى ذاع به صيت أنور عبد الملك، عندما هرب من مصر إلى منفاه الباريسى، ونشر تحليله لأوضاع مصر تحت عنوان: «مصر مجتمع عسكرى». كانت القيادة العليا للدولة معقودة على العسكريين. كل نواب رئيس الجمهورية مع استثنائين كانا من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، كذلك كانت نسبة معتبرة من الوزراء، وكل المحافظين تقريبا، وعدد كبير من رؤساء مجالس شركات القطاع العام، ومن السفراء.

وقد أدرك عبدالناصر خطورة هذا الوضع بعد حرب 1967 خصوصا وقد اكتشف أن نسبة كبيرة منهم كانت تدين بالولاء للمجموعة التى أحاطت بالمشير عبدالحكيم عامر، والتى كانت أحد أسباب الهزيمة العسكرية أمام إسرائيل فى هذه الحرب. ولذلك يمكن القول أن الحضور البارز للعسكريين فى مناصب الحكم والإدارة فى مصر، قد بدأ فى التراجع بعد الإطاحة بمجموعة عامر فى القوات المسلحة والمخابرات العامة، واستمر هذا التحول خلال فترتى السادات ومبارك، وتواكب ذلك مع صعود أقسام أخرى إلى النخبة الحاكمة فى مصر خصوصا بين كبار موظفى الدولة ورجال الأعمال.

***

والملاحظ أن هذا التحول نحو اقتصار دور القوات المسلحة على الدفاع عن البلاد، والمشاركة فى جهود تنميتها من خلال ما تقوم به على سبيل الخدمة الوطنية، قد انعكس فى ظل إدارة الرئيس عبدالفتاح السيسى، ولم يعد فقط إلى سيرته الأولى فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى حتى هزيمة يونيو 1967. بل توسع هذا الدور إلى مجالات بعضها مقبول على نحو استثنائى، وبعضها الآخر يثير ردود فعل متباينة، فمما هو مقبول بكل تأكيد على نحو استثنائى مساعدة قوات الشرطة على استعادة الأمن فى المدن المصرية سواء خلال أحداث ثورة يناير أو فى أعقاب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين فى يونيو 2013، أو إصلاح بعض المرافق على نحو سريع فى المناطق الفقيرة فى البلاد أو بناء الكنائس التى تهدمت فى حوادث إرهابية. لاشك أن ذلك كله مشروع ومقبول وموضع الترحيب. ولكن أنشطة أخرى للقوات المسلحة تثير أسئلة حول ما إذا كان ذلك هو دورها الصحيح، وطبيعة الأثر الذى ينجم عنها فى مجهود بناء الدولة المصرية التى وصفها الرئيس السيسى بأنها شبه دولة.

هناك مثلا محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، على الرغم من محاولة دستور 2014 الحد من ذلك بقصره على حالات التهجم على القوات المسلحة أو مؤسساتها، ولكن تعديلا تشريعيا وسع ذلك باعتبار أن كل منشأة تحرسها القوات المسلحة تعتبر مؤسسة عسكرية، بل وتواترت الأنباء عن محاكمة عمال مضربين أمام محكمة عسكرية. هل هذا توسع مقبول لعمل القضاء العسكرى إذا كان أملنا هو أن تصبح مصر مجتمعا مدنيا؟

ثم هناك ما يسمى بالمشروعات القومية الكبرى مثل توسيع قناة السويس، وتنمية إقليم القناة، واستصلاح مليون ونصف مليون فدان، والإسكان الاجتماعى، وشبكة الطرق الجديدة، وإقامة ما يوصف بأنه عاصمة إدارية جديدة. كل ذلك يتم بالحضور البارز للقوات المسلحة وخصوصا هيئتها الهندسية. وعندما يتابع الرئيس كل هذه المشروعات فإن من يشاركونه المتابعة هم فى الغالب من القيادات العسكرية، ربما مع حضور وزير الإسكان، وفى أغلب الحالات بدون وجود رئيس الوزراء.

وأخيرا طالعتنا الصحف فى الأسبوع الماضى بأن القوات المسلحة دخلت أيضا إلى مجال التعليم، وبدأت بالفعل فى إنشاء سلسلة مدارس بدر الدولية التى ستلقن طلابها العلم بلغات أجنبية، كما أنها ستتولى تقديم الطعام فى المدينة الجامعية لجامعة القاهرة، وأوردت الصحف أنها ساهمت فى توفير ألبان الأطفال بعد احتجاجات الأهالى على عدم توافر هذا الغذاء الأساسى والحيوى لصغارهم. كما ذكر رئيس الوزراء فى تصريحاته لرؤساء تحرير الصحف، أن القوات المسلحة بما لها من خبرة سوف تسهم فى إصلاح الجهاز الإدارى للدولة، وجاء فى بعض الصحف أن ذلك يشمل شركات القطاع العام. وقد كانت مقدمة هذا الدور اضطلاع وزارة الإنتاج الحربى بالمسئولية عن إدارة منظومة بطاقات التموين الذكية.

***
كل هذه التطورات تفتح المجال للعديد من الأسئلة: أولا حول المبادئ الحاكمة للكفاءة فى العصر الحديث، ومدى توافق ذلك مع ما يسمى بقواعد الحكم الرشيد، وأخيرا حول أثر ذلك على مشروع بناء الدولة فى مصر.

أظن أن دارسى الاقتصاد والاجتماع وعلم الإدارة العامة يعرفون المقولة الشهيرة عن أسباب الكفاءة فى الاقتصاد والمجتمع الحديثين وارتباط ذلك بالتخصص وتقسيم العمل. إن من يتخصص فى عمل معين، سوف يجيده، وترتفع كفاءته بالمقارنة بصاحب البالين الذى لن يجيد أى عمل، وقد أدى هذا الفهم لمزايا التخصص وتطور تكنولوجيات الإنتاج والخدمات إلى انقسام كل نشاط وكل مهنة إلى تخصصات متعددة. انقسمت الحكومة إلى العديد من الوزارات والتخصصات، وتعددت التخصصات داخل أى مهنة، ولم تعد الأسرة تقوم بتوفير الغذاء والكساء والتعليم والرعاية الصحية لأفرادها، فهناك قطاعات كبرى فى المجتمع تقوم بهذه المهمة. أنت لا تذهب للمهندس لتلقى العلاج، ولو كنت تشكو –لا قدر الله متاعب فى قلبك، فلن تذهب إلى طبيب الأنف والأذن والحنجرة، بل ستذهب إلى طبيب القلب. وعلى ضوء هذا الفهم نتساءل: «لماذا تتعدد الوزارات لدينا؟» وأين توجد المزايا النسبية للقوات المسلحة؟ أليست هى فى استخدام السلاح دفاعا عن أمن الوطن؟ وهل يمكن للقوات المسلحة أن تجارى وتتفوق على مؤسسات التعليم والصحة والشركات الخاصة عندما تزحف على مجالات تخصصها.
طبعا نحن نواجه مشاكل فى كل هذه المؤسسات، ولكن أليس أصحاب الدار أدرى بشئون بيتهم، ولا أظن أن هناك نقصا فى أصحاب الأفكار الإصلاحية فى كل هذه المؤسسات.

والسؤال الثانى هو علاقة هذا التوسع بقواعد الحكم الرشيد التى تتضمن حكم القانون، والشفافية، والمساءلة، والرشادة فى صنع القرار. نحن لا نعرف من الذى اتخذ القرار بالنسبة لهذا التوسع، ولا نعرف أين ستتم مساءلته إن أخفقت هذه الجهود، ولا نعرف على أى أساس اتخذ القرار بالنسبة لهذا التوسع، وما هى المعلومات التى توافرت لمن اتخذوه، وما هى البدائل التى استبعدوها. كل هذه هى قواعد ضرورية إذا كنا نريد حقا الاهتداء بقواعد الحكم الرشيد.

***

وأخيرا هل هذا هو طريقنا للخروج من وضع شبه الدولة، وهو توصيف أتحفظ كثيرا عليه لأن نفس هذه الدولة هى التى بنت السد العالى وأدارت قناة السويس وأنجزت انتصار أكتوبر، ومع ذلك إصلاح الدولة المصرية فى الوقت الحاضر يعنى النهوض بإدارتها الحكومية المدنية، وبقطاعها الخاص وقطاعها العام. وسوف يكون أعظم إنجاز لقواتنا المسلحة أن تترك لكل هذه المؤسسات مجال عملها المألوف وأن تحترم استقلالها فيه، وأن تتعاون كلها على خروج هذا الوطن من أزماته الراهنة، وذلك بأقصى استفادة من فوائد التخصص والمزايا النسبية لكل من هذه المؤسسات.
مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات