لا تعجبوا من عنوان هذا المقال. بالطبع الفيلسوف الألمانى الذى مات فى سنة ١٨٨٣ لم يبعث من قبره، وبالتالى لم يدع لحفل تنصيب دونالد ترامب الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة، وليس من المتوقع أن يدعو ترامب إلى حفل تنصيبه فلاسفة يكرههم أو يعجب بهم، وقد علقت الصحف الأمريكية والدولية على هؤلاء الذين حضروا الحفل وجذبوا الانتباه. كانوا هم من أثرى أثرياء العالم والولايات المتحدة بطبيعة الحال، وفى مقدمتهم إيلون ماسك صاحب أكبر الثروات فى العالم، ومنهم جيف بيزوس مالك سلسلة متاجر أمازون، وصحيفة واشنطن بوست ومارك زوكربيرج مالك فيسبوك، وغيرهم من الست وعشرين من أصحاب المليارات الذين ساهموا بدعم حملة ترامب الانتخابية بما لا يقل عن مليون دولار لكل منهم. طبعًا الرئيس الأمريكى المنتخب ينتمى إلى هذا النادى، فثروته الشخصية تقدر بما يتجاوز ست مليارات من الدولارات. تصوروا ماذا كان الفيلسوف الألمانى يقول أمام هذا المشهد لو تصورنا أنه يمكن أن يحضره. لا شك أننا كنا سنرى ابتسامته العريضة تحت شاربه الكث الذى يحيط بلحيته الكثيفة. "لقد قلت لكم"، يصرح لمن كان سيسمعه "أن أصحاب الثورة هم هيئة أركان الدولة الرأسمالية. سخر بعضكم من هذه المقولة التى اقترحتها كأحد حالات العلاقة بين أصحاب الثروة وجهاز الدولة، يستخدم فيها أصحاب الثروة سيطرتهم على أدوات الإنتاج لكى يجعلوا جهاز الدولة مجرد أداة لتحقيق مصالحهم، دون أن يمتلك هذا الجهاز أى استقلالية فى مواجهتهم. ونبهتكم أنه فى حالات أخرى يمكن أن يسيطر جهاز الدولة على المجتمع، كما كان شأن الحضارات النهرية فى الصين والهند والشرق الأدنى، وفى حالة ثالثة يمتلك جهاز الدولة هذا الاستقلال لأن الطبقات المالكة لأدوات الإنتاج تتعارك فيما بينها ولا تجمعها إرادة واحدة، ويعطى هذا الوضع لجهاز الدولة حرية واسعة فى مواجهة هذه الطبقات، كما كان الحال فى فرنسا وما شاهدته فيها فى منتصف القرن التاسع عشر. وقد تصورت كما ذهب بعض من قرأوا أعمالى إلى أنه فى حالة الرأسماليات المتقدمة مثل الولايات المتحدة وأمام اتساع الطبقات الرأسمالية فيها وتعقد مسئوليات الدولة، أن هذه الطبقات ستسمح لجهاز الدولة باستقلال نسبى فى إطار الرأسمالية حتى يسمح لها من ناحية بأن تتفرغ لكسب الثروة ومضاعفتها، ولكن حتى يقوم ببعض الإصلاحات الاجتماعية التى تجمع الطبقات الوسطى والعاملة وراء الدولة التى ستكتسب من ثم شرعيتها. أنا أبتسم لأنى لم أتصور أن يكون هذا هو حال الولايات المتحدة".
هذا الحديث المتخيل لكارل ماركس ليس مقدمة لمقال فى الفلسفة السياسية، لكنه تعليق على ما يجب أن يكون عليه وضع جهاز الدولة ليس فى المجتمعات الرأسمالية وحدها بل وفى كل أنحاء العالم. هل الأفضل للمواطنين أن يكون جهاز الدولة أداة فى يد قسم من المجتمع، طبقة أو قبيلة أو مؤسسة دينية أو ميليشيا عسكرية تديره لحسابها، أم أنه يجب أن يتمتع بالاستقلال النسبى فى مواجهة كل هذه الانقسامات السائدة فى المجتمع ليخرج بمشروع سياسى واقتصادى واجتماعى يلقى القبول منها كلها، حتى وإن كانت كلها لا تستفيد منه بنفس الدرجة؟ وحتى نضع ذلك فى السياق الأمريكى، فهذا هو لب الخلاف بين فريق ترامب وأصحاب المليارات فيه والحزب الديمقراطى الذى هزم مرشحاه فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة. لا يشك أحد فى أن الحزب الديمقراطى فى الولايات المتحدة هو حزب ملتزم بالاقتصاد الرأسمالى، ويدعو إلى تعميم نموذج المشروع الخاص فى كل أنحاء العالم، ويتنافس على هذا الأساس مع النموذج الصينى الذى قيد فى السابق الملكية الخاصة، بل دعا فى فترات لاحقة إلى إلغائها تماما وصولا إلى المجتمع الشيوعى المنشود. ومع ذلك فالحزب الديمقراطى هو الذى ارتبط تاريخيا بإدخال إصلاحات اقتصادية واجتماعية عندما عانت الرأسمالية الأمريكية من أزمات عالمية خانقة جاءت بالحزب النازى إلى السلطة فى ألمانيا فى أعقاب أزمة الكساد الكبير فى ١٩٢٩، وكان المخرج منها الذى نفذه الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت هو جرعة من تدخل الدولة عبر مشروعات الصفقة الجديدة The New Deal، واعترف أثناءها بنقابات العمال، وهو ما حاوله رئيس ديمقراطى آخر هو باراك أوباما عندما دخلت الولايات المتحدة والدول الرأسمالية الأخرى فى أوروبا وشرق آسيا أزمة مالية فى ٢٠٠٨، وصلت إصلاحاته إلى حد فرض سيطرة الدولة مؤقتًا على شركات السيارات الكبرى التى انخفضت مبيعاتها كثيرًا فزادت مديونيتها أثناء تلك الأزمة، وسعى أيضًا لتوفير الرعاية الصحية لعشرات الملايين من الأمريكيين الذين لا يقدرون عليها. وبفضل إصلاحات أوباما خرج الاقتصاد الأمريكى من عثرته، واستأنف النمو ولقيت سياساته قبولًا واسعًا من كل طبقات المجتمع، وصار من أكثر الرؤساء الأمريكيين شعبية. وهو نفس ما حاوله الرئيس جو بايدن باتباع سياسة صناعية تستهدف تدعيم مكانة الولايات المتحدة فى مجال التكنولوجيات المتقدمة، وتحسين قدرتها التنافسية فى مواجهة الاقتصاد الصينى الذى سيحل مكان الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد فى العالم، وهذا التصور لدور الدولة هو جوهر البرنامج الاقتصادى لكامالا هاريس المرشحة الديمقراطية فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وقد حذر بايدن فى خطاب وداعه من أن نجاح مرشحى الحزب الجمهورى سوف ينقل الولايات المتحدة إلى حكم أوليجاركية، أى حكم أصحاب الثروات.
خطورة حكم أصحاب الثروات
ابتسامة ماركس الساخرة المتخيلة لها ما يبررها، فهو عندما تحدث عن الدولة باعتبارها هيئة أركان الطبقة الرأسمالية كان يتصور أن الدولة ستكون القائد الذى يدرك مصالح الطبقة ككل، وأهم مصلحة لها هى استمرار النظام الرأسمالى. الرأسماليون مشغولون بمصالحهم الفردية، وهم متنافسون فيما بينهم، بين من يجد مكانه فى السوق الداخلى ويخشى المنافسة الخارجية، وبين من يكسب أسواقًا واسعة خارج بلاده ولا يهتم بتقييد المنافسة داخل بلده، بين صغار المنتجين وكبار المنتجين. الدولة عندما تتمتع بالاستقلال النسبى هى القادرة على امتلاك روية واسعة بما يتوافر لها من خبرة ومعرفة وإحاطة بأوضاع المجتمع ككل، مثلما تحيط هيئة أركان الجيش بميدان المعركة على رحابته بينما لا يرى قادة الكتائب سوى تلك المساحة الصغيرة التى تواجه وحداتهم، وهذا هو ما تفعله الدولة فى الرأسماليات المتقدمة فى غرب ووسط أوروبا وفى شرق آسيا. أما عندما يتولى الرأسماليون إدارة الدولة فسوف يوجهونها لخدمة مصالحهم بصرف النظر عن مصالح طبقات المجتمع الأخرى. سوف يتولى إيلون ماسك أثرى أثرياء العالم وزارة جديدة فى حكومة ترامب هى وزارة الكفاءة الحكومية، وأول خططه هى تخفيض حجم الإدارة الحكومية مما سيترتب عليه من فقدان مئات الآلاف من الموظفين فى الحكومة الاتحادية لمصادر دخلهم. وطبعًا خفض الضرائب هو عنصر أساسى فى برنامج ترامب، ويفيد أصحاب الثروات، ولكن يترتب عليه خفض إيرادات الحكومة وزيادة مديونيتها التى بلغت حدًا غير مسبوق فى تاريخ الولايات المتحدة، ويقلل من قدرتها على الإنفاق على الخدمات الاجتماعية التى تهم الطبقات العاملة والوسطى، وفى مقدمة البرامج الاجتماعية التى ستعانى من هذا الخفض برنامج الرعاية الصحية الذى بدأه الرئيس الأسبق باراك أوباما، ويتطلع ترامب إلى إلغائه، كما ستقلل الحكومة إنفاقها على التعليم والبحث العلمى، وهو ما حدث أثناء ولاية ترامب السابقة، ومن المعروف أن غالبية الطلاب الأمريكيين يعتمدون على القروض التى تقدمها الحكومة لاستكمال تعليمهم الجامعى، ومن شأن خفض إنفاق الحكومة على التعليم عجز الطلاب من الطبقة الوسطى عن إكمال تعليمهم الجامعى أو اللجوء إلى مؤسسات التعليم الجامعى ذات المكانة الأدنى، ويفضل ترامب ترك الإنفاق على البحث العلمى للشركات الكبرى، وإخضاع تمويل الجامعات لاعتبارات سياسية ووفق أهواء المتبرعين الذين هدد بعضهم بوقف تمويل الجامعات التى لا تقيد حرية التعبير للطلاب والأساتذة الذين ينتقدون إسرائيل، وإذا كان رفع التعريفات الجمركية على الواردات الأرخص من دول أخرى سيعطى ميزة للصناعات الأمريكية غير القادرة على المنافسة، فمن شأن ذلك أن يرفع أثمان تلك الواردات بل والمنتجات الأمريكية المحمية بالنسبة للمستهلك الأمريكى.
الاستقلال النسبى لجهاز الدولة كقضية عامة
الاستقلال النسبى لجهاز الدولة لا يعنى أن أصحاب الثروات لن يمارسوا نفوذا على جهاز الدولة أو أن جهاز الدولة سيكون معاديا لهم. فى ظل النظام الرأسمالى يملك أصحاب الثروات نفوذا هائلا، ليس فقط من خلال ثرواتهم، ولكن من خلال صلاتهم الاستراتيجية بكبار الموظفين، فهم تشاركوا معهم فى نفس التعليم وربما تخرجوا من نفس الجامعات، ويقطنون نفس الأحياء، ويترددون على نفس النوادى. ولهم جماعات المصالح الناطقة باسمهم، ويمولون الأحزاب والمرشحين فى الانتخابات، وهم يملكون القدرة على توجيه أفكار المواطنين والمواطنات من خلال سيطرتهم على أجهزة الإعلام. إيلون ماسك يملك منصة X، وهى Twitter سابقًا، وبيزوس يملك صحيفة واشنطن بوست، ومارك زوكربيرج يملك فيس بوك، وكلها طوعت محتواها بحيث يتلاءم مع الإدارة الجديدة، لكن يفترض أن المجتمع، كل مجتمع يجب أن يتيح لكل الطبقات والفئات نفس الحريات فى التعبير والتنظيم والمشاركة السياسية، وأن يكون هناك فصل فى مزاولة المنصب الحكومى بين الأداء أثناء تولى المنصب والمصلحة الخاصة، وذلك فى ظل الشفافية والمساءلة. عندما تتوافر هذه الشروط يمكن لجهاز الدولة أن يبلور توجهات تخدم مصالح كل الطبقات بحسب مدى وجودها داخل مؤسساته التشريعية والتنفيذية والمحلية، وهنا يمكن أن يكتسب شرعيته.