بعد ساعات من إعلان حركة المحافظين الجديدة، وتوالى التصريحات الحماسية المتتابعة من بعض منهم كنت على موعد فى مكان قريب من النادى الدبلوماسى فى وسط القاهرة، ذلك المبنى التاريخى الفخم، الذى يحوى بدائع البناء، وكنوز الفنون، وشياكة الترتيب، وجدت للمرة الأولى أن هناك مقهى ظهر ملصق له على نحو مثير، وملفت، لا يتناسب مع عراقة المكان، ليس هذا فحسب بل يكاد يستولى على شارع بأكمله مغلق، ومجاور لمبنى النادى، الذى نجا من انفلات وتظاهرات وتخريب على بعد أمتار منه فى السنوات الأخيرة، وإذ به يبتلى بمقهى ــ بالتأكيد غير مرخص ــ يجاوره، ويقض مضجعه. هذا مجرد مثال عابر لحالة أصبحت شائعة، ولكن لم أكن أتوقع أن تغزو وسط القاهرة على هذا النحو.
فى العرف المصرى فإن تولى مسئول جديد فرصة لإطلاق تصريحات جديدة، أغلب الظن تعكس أملا ووعدا بالجدية وتطلعا للإنجاز، ولكن ما يلبث الأمر أن تلين الأمور، وتتضاءل الآمال وتتبخر الوعود. السبب أن المسئول الجديد قد تخالجه النوايا الطيبة لكنه لا يعرف حقيقة الأوضاع فى الواقع، فضلا عن أنه ليس لديه تقدير للإمكانات المتاحة. يحدث هذا على وجه الخصوص عندما يتولى شخص موقعا ليس لديه خبرة واسعة به. الفكر الجديد دائما مطلوب، ولكن المهم هو تقدير الموقف بشكل صحيح.
وقد أطلق عدد من المحافظين الجدد تصريحات تفيد التزامهم بمواجهة العشوائية، والمخالفات، واشغالات الطرق، وعودة الانضباط إلى الشارع. الكلام مشجع، ولكن الإشكالية فى الأسباب التى آلت إلى حدوث هذه المظاهر السلبية. هل يملك المحافظون القدرة، والإمكانات، والتمكين القانونى الذى يتيح لهم التعامل مع هذه المظاهر السلبية؟ هل المشكلة تتصل فقط بنوعية القيادات التى تتولى المواقع، فيكون تغيير القيادات إيذانا بتغيير الأوضاع، أم أن الأمر يتصل بحقائق الواقع المعقدة التى تمثل تشابكاتها «معضلة» أمام أى المسئول؟
بالطبع لا أحد يتجاهل دور الشخص فى أى موقع. وأتذكر مقولة فوكوياما الشهيرة أن اليابان لم تبنِ بعد الحرب العالمية الثانية بالمال فقط، ولكن بنوعية القيادات التى تولت المواقع العامة. ولكنى دائما، من واقع خبرة الوجوه المتعاقبة على المواقع، أدرك أن الواقع معقد إلى حد أنه يحتاج إلى تعامل مع نوع آخر لسد ثغرات قانونية، ومواجهة السلطة التقديرية للموظف، ودورة المستندات الجهنمية، ووقف حلقات الفساد المتتابعة، وتمكين المواطن من المشاركة فى الشئون المحلية، داعما ومراقبا ومحاسبا للإدارة، بوصفه صاحب المصلحة الأساسية فى المجتمع المحلى.
هل يمتلك المسئولون الجدد ما لم يمتلكه أقرانهم من قبل؟ هل لم تكن هناك إفادة كافية من الموارد المتوفرة لسابقيهم؟ إلى أى حد هناك مساندة سياسية لم تكن متاحة من قبل؟ هل هناك نصوص قانونية معطلة فى السابق آن وقت تفعيلها؟ هل المتابعة اللصيقة من جانب المسئول كافية لتحفيز وتنشيط وتمكين الكادر الإدارى للمساهمة فى تغيير ملموس؟
الأسئلة كثيرة، وجميعها مشروعة، والتصريحات كثيرة لكنها متفائلة، وقد تفقد ثقة المواطن عندما يجد الواقع كما هو، بل فى بعض الأحيان يزداد سوءا. الناس لا تريد كلام التصريحات الجميل، تبحث عن تغيير فى الواقع حتى إن كان محدودا.