تحب فرنسا أن تلهى نفسها، قيادة وشعبا، بفضيحة أسبوعيا كمعدل متوازن لا يحرم المجلات والنشرات الإخبارية والمتهكمين الإعلاميين من موادهم الفضائحية التى يستهلكونها بلا تروٍّ، غير منتبهين لمعدلات الإحباط التى ترتفع فى الساحة السياسية. بل على العكس، تجدهم مستمتعين بهذه الحالة ويطلبون المزيد. وخلال هذه الأيام تلوك الألسن وتملأ الشاشات والصحف بحادثة تدخل ضمن عملية يمكن لنا أن نسميها وبلا وجل، توريثا سياسيا، لأحد أبناء الرئيس نيكولا ساركوزى المدعو جان، والذى لم ينه، وهو فى سن 23، سنته الدراسية الثانية فى كلية القانون. هذا الشاب الطموح الذى سبق أن تم انتخابه وبكل ديمقراطية فى المجلس البلدى للمدينة الغنية التى رأس والده بلديتها لمدة كافية من الزمن سمحت له بأن يبنى علاقات اقتصادية واجتماعية مع أهم النخب الفرنسية الفاعلة. وانتخاب «الابن» لم يكن مزعجا لأنه جرى بشفافية نسبية وتم دعمه من أصدقاء السيد الوالد، ولكن كان مؤشرا على طموح يكتنف الأب أكثر من الابن لفتح طريق السياسة له على مصراعيه ولمستقبل واعد بقدر من التروى وبلا عجالة. ولكن الوقائع كذبت هذا التروى المنتظر، وإذ بالشاب الطموح يبدأ بالصعود فى مجال البلدية التى انتخب فيها، وكذلك على مستوى حزب الأغلبية الحاكم «الاتحاد من أجل حركة شعبية» حيث أضحى من الزعماء الشباب اللامعين.
حتى هذه المرحلة، لم يبدأ الفرنسيون بالتذمر، وهو رياضتهم الوطنية المحبوبة، حيث اعتقدوا بأن الأمر سيتوقف مبدئيا عند هذا الحد أو هذه الحدود. ولكن «الميه تكذب الغطاس» كما يقولون، وإذا بالمواطنين يستيقظون ذات صباح ليجدوا أنه قد تم ترشيح الشاب جان ساركوزى ليترأس الهيئة التى تدير حى الأعمال «لا ديفانس» فى أطراف باريس، والذى يدير حجم أعمال يقارب الأربعة مليارات يورو، ليصبح من خلالها مسئولا عن تنظيم ومراقبة ومتابعة وترخيص حى كالسيتى فى لندن حيث تتقاسمه أكبر الشركات متعددة الجنسية ومكاتب أهم المصارف العالمية. لم يصدق الفرنسيون بيمينهم وبيسارهم هذا الخبر وسارعوا إلى الامتعاض، وعبروا عن صدمتهم من خلال الصحف وعبر تعليقات ممثليهم فى البرلمان ومجلس الشيوخ، وصل الأمر إلى تأليف وصلات فكاهية تضع الابن والأب فى صورة الأباطرة الرومان وملوك فرنسا قبل الثورة الفرنسية.
سارع المحيطون بالقرار إلى تبريره من خلال الإشادة بقدرات الشاب الخارقة وبأنه يعتبر أفضل تجديد فى دماء الطبقة الحاكمة والمسيرة للاقتصاد. وبالطبع، نأى محترموهم لأنفسهم عن التبرير لما فيه من تملق غير محبذ فى الثقافة الديمقراطية الأوروبية عموما، والفرنسية بالأخص. ولكن الأمر وقع والانتخابات لهذا المنصب ستجرى فى بداية ديسمبر المقبل والتوقعات كلها تضع الابن الخارق فى المقدمة، كون الناخبين الثمانية عشرة يمثلون الشركات وأصحاب المصالح وكذا رؤساء البلديات التى تغطيها هذه الهيئة، وبالتالى مصالحهم تتقاطع مع رغبة الوالد الرئيس ولا يريدون البتة إزعاجه وإقلاق تطلعاته. ولأن وجود صوت نشاز هو أمر وارد، فقد انبرى أحدهم، وهو يرأس بلدية شيوعية، إلى ترشيح نفسه عارفا تماما بأن الفشل ينظره بعد فتح صناديق الاقتراع، ولكنه سجل موقفا رمزيا.
وتقدم عدد من الشبان إلى قصر الإليزيه مطالبين بمقابلة الرئيس علّه يتبناهم فتتاح لهم فرصة الوصول السريع بل والصاروخى إلى مناصب عليا. وبدأت الأوساط الثقافية بالتعبير عن خوفها على مستقبل الديمقراطية فى الجمهورية الخامسة، والتى تتهددها طموحات ما فتئ الأب يرسخها من خلال ممارساته وسياساته، ولكنه لم يبلغ حتى الآن مرحلة التصور المستقبلى والذى يحمل فى طياته عقلية مستنبطة من تجارب على أقل تقدير يمكن وصفها بقليلة الديمقراطية.
حتى أن البعض قد تساءل إن كانت هذه الخطوة من نتائج إطلاق مشروع الاتحاد من أجل المتوسط، وبالتالى فالتأثيرات الثقافية المتبادلة مع الجنوب غير الديمقراطى قد بدأت ومن على مستوى القمة؟ أم أن الرئيس ذاته قد نسى أو تناسى أنه على موعد مع صناديق اقتراع قاسية الحكم فى سنة 2012 القريبة جدا بالعرف السياسى؟ أم أنه، ولشعوره بقرب «أجله» السياسى بعد أن أثبتت سياساته الاقتصادية والأمنية والخارجية بعضا من الوهن، والتراجع الكبير فى شعبيته، فقد تنبه إلى تحضير الخلف الذى يسعى لأن يكون أفضل من السلف؟ أم أن العقلية الملكية قد تجاوزت حدود الطرفة السياسية التى رافقته منذ وصوله إلى الحكم لتصبح واقعا، وليعتقد فعلا بأن المخلص المنتظر لكل المشاكل المحلية، وبل حتى الدولية؟
الاعتقاد السائد لدى السياسيين ذوى النظرة المتأنية إلى أن هذه البدعة السياسية، وإن كانت تبعث على الدهشة فى المنطق السياسى الحديث لدولة ما بعد الملكية بكل أبعادها داخليا وخارجيا، ما هى إلا نتاج طبيعى لمرحلة تجديد الدم السياسى التقليدى، من حيث إن الانغلاق الذى حصل، وليس فى فرنسا وحدها، على طبقة معينة من أصحاب الحظوة الاقتصادية والتعليمية والتوظيفية، قد أنتج مجموعة شبابية تغلق بوابة العمل السياسى على أفراد «الطبقات» التى تختلف عنها يمينا ويسارا، وما يحصل ليس إلا نوع من ضعف فى المسار الديمقراطى الذى يمكن له أن يتجاوزه من خلال الممارسة الفعلية للرقابة الشعبية، عن طريق أشكال متعددة من المجالس المنتخبة والعمل الحزبى والنقابات والمنظمات المدنية، والتى لن تسمح بأى شكل من الأشكال، بتطور الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.
وفى نهاية المطاف، انتصرت الديمقراطية عن طريق الوسائل الشرعية من خلال التعبير وحريته وتأثير الرأى العام الذى أجمع يمينا ويسارا، عدا المنافقين والممجدين، على رفض هذا الأسلوب من رفع الأبناء إلى مناصب أساسية تهيئة لهم لمستقبل سياسى رفيع. وتقدم الشاب وأعلن انسحابه من هذا الترشيح عن طريق وسائل الإعلام. ويمكن، وعلى الرغم من التراجع، أن يعتبر الرئيس وابنه المحروس أنهما قد خرجا من ورطة جديدة على ساحة فقدان الشعبية، وبالتالى، فهما قد أظهرا بصورة أو بأخرى، أنهما يستجيبان لضغط الرأى العام، ولو أن الالتفاف على هذه التجربة «الفاشلة» لن يطول من خلال إيجاد وسائل أخرى يمكن أن تعبر عن طريق الانتخابات للمجالس المحلية المرتقبة فى 2011.
إن فرنسا التى أنتجت الثورة وراجعت الثورة وانتقدت الثورة وصنعت مايو 1968، وحفزت أدبيات مثقفيها عمليات التحرر والمطالبة بالحرية وباحترام حقوق الإنسان فى بقاع عدة، لن تتوقف طويلا عند مرحلة ضعف تمر بها، مهما تعقدت ومهما تشعبت. فهى قادرة على تجاوزها ووضع الحدود اللازمة لسلبياتها. وذلك على الرغم من ميول عالم ثالثى لدى بعض ساستها. وهم فى ذلك يساهمون فى خلق وعى جديد لدى شعوب الأرض لضرورة التغيير فى الثقافات قبل التغيير فى السياسات. فإن الدولة مهما كانت ديمقراطية فهى «لا تخرج عن وصف الاستبداد، ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذى لا تسامح فيه» كما قال عبدالرحمن الكواكبى منذ نيف ومائة عام.