أعتقد أن دستور 1971 بتعديلات فى عام 2011 أجاب عن كثير من الأسئلة التى لا نحتاج أن نعيد فتح باب النقاش فيها الآن مرة أخرى إذا كنا مستعدين أن نصنع دستورا فى عدة سنوات. البولنديون كتبوا دستورهم فى الفترة من 1989 حتى 1997 واحتاجوا لأن يكتبوا دستورا مؤقتا قبل انتخابات 1993. وهنا تأتى أهمية دستور 1971 حيث إنه فى أبوابه الأربعة أجاب بشكل جيد عن أهم ثلاثة أسئلة: هوية المجتمع والدولة، ومقوماتهما، والحقوق والحريات الأساسية للمواطنين. المعضلة الأساسية فى دستور 1971 لم تكن قط فى أبوابه الأربعة الأولى، وإنما كانت فى الباب الخامس (بدءا من المادة 73 وصولا إلى الباب السابع). وهى أقرب إلى منطق أن كل الحقوق موجودة فى الأبواب الأولى، ولكنها مشروطة بموافقة رئيس الدولة كما هو موجود فى الباب الخامس تحديدا. وهى نظرية معروفة فى الدول التسلطية الأخرى. دستور الاتحاد السوفييتى كان يتضمن نفس الفكرة، تقريبا بالضبط، مع فارق أن حجم الإبهام والشعارات كان أكثر كثيرا عندهم. وهى نظرية أن نكتب كل الحقوق فى أحد الأبواب، ونجعل مفتاح هذا الباب فى يد سلطة مستبدة فى باب آخر من أبواب الدستور.
وعليه فأنا أزعم أنه قد يكون من المفيد أن يتضمن دستورنا الجديد الأبواب الأربعة الأولى من دستور 1971 بلا تغيير آخذين فى الاعتبار أن الجدل بشأن الكثير مما هو موجود فى هذه الأبواب الآن قد يفتح نقاشا لا ينتهى فى وقت نحن نريد فيه تعجل إخراج المجلس العسكرى من المعادلة السياسية.
ولنأخذ مثلا موضوع هوية الدولة المصرية؛ فهذه الهوية التى ارتضاها المصريون مذكورة فى المواد الثلاثة الأولى من الدستور المصرى. والتى لا بد أن نفهمها وأن نستوعبها جيدا لأنها جوهر وحدتنا ومصدر قوتنا. ولنتذكر ما هى هذه المواد:
المادة الأولى: جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطى يقوم على أساس المواطنة. والشعب المصرى جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة. المادة الثانية: الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، واللغة العربية لغتها الرسمية. المادة الثالثة، السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها، ويصون الوحدة الوطنية.
إذن هذه الكلمات تحمل الكثير مما نؤمن به فعلا، فمصر جمهورية (ليست ملكية مثلما أراد لها أنصار التوريث)، ديمقراطية (ليست تسلطية)، تقوم على أساس المواطنة (أى المساواة أمام القانون رغما عن الاختلاف فى الدين أو الجنس أو الدخل)، وهوية مصر العربية ليست حديث ماض تليد، وإنما هى جزء من مستقبل منشود. علينا أن نعمل على تحقيق وحدة العرب الشاملة كما جاء فى المادة الأولى. وهى ليست أمالا بل هى ضرورة إستراتيجية فى مجتمع عالمى يقوى فيه الأكثر قدرة على الاندماج وتوسيع دائرة الـ«نحن» وتضييق دائرة الـ«هُم». وقد أثبتت لنا ثوراتنا أن إرادة الشعوب نافذة مهما علت أصوات وأسلحة المستبدين. والمادة الثانية، تضمن أن يكون هناك احترام لدين الأغلبية كإطار حضارى جامع للشعب المصرى كله مثلما جاء على لسان واحد من أكثر مسيحى مصر وطنية مكرم عبيد باشا فى العشرينيات حين قال: «نحن مسلمون وطنا ونصارى دينا، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصارا. اللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين».
المادة الثالثة تتحدث عن أن السيادة للشعب وحده وهو مصدر السلطات وهو الذى نزل فى 25 يناير كى يمارسها ويحميها ويصون وحدته. ولكن هذا الشعب يحتاج كى يمارس هذه السيادة ويحميها أن ترتفع مناعته ضد الفساد والاستبداد. كيف؟
هذا هو التحدى الأكبر فى تقديرى وهو تحدى التوعية السياسية بهذه المعانى، فوجود أعظم دستور على الورق، دون أن يعى أصحابه قيمته، فكأنه والعدم سواء.