«لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن
يا قدس يا قدس يا قدس يا مدينة الصلاة أصلى
عيوننا إليك ترحل كل يوم ترحل كل يوم
تدور فى أروقة المعابد تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد»
لكن هذا العام لن نرى من يمسح دموع الكنائس ودموع الرهبان الأقباط الذين جردهم الاحتلال ومزق لباسهم ساعيا بكل دأبٍ أن يضع يده على دير السلطان الذى عاد للأقباط بعد خروج الصليبيين من القدس وعودة الأقباط لكنائسهم على يد صلاح الدين الأيوبى، فى رواية مختلفة يُقال أن الدير سُميَ على اسم السلطان منصور التبانى فى القرن الحادى عشر الذى كان يمكث فى الدير والذى شيد كنيسة داخل الدير. فبالرغم من أن الأقباط يسكنون فى القدس منذ القرن السادس عشر حتى استقروا حين وصلت دولة محمد على للقدس تحت حملة إبراهيم باشا فى القرن التاسع عشر، فهناك من يسعى لطمس هذه الذاكرة تمهيدا لسلب أراضى القدس، مصورا أن تلك الحقبة كانت من ضمن عصور الظلمة نتيجة تشدد الحكام المسلمين دون ذكر المتاعب التى تعرض لها الأقباط وطردهم من الكنائس تحت ولاية الصليبيين فى القدس.
***
يتبنى رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو هذه الذاكرة الزائفة لأنه يصور أنه منذ حكم السلطة الفلسطينية اضمحل تعداد الفلسطينيين المسيحيين فى حين أنهم يعيشون حياة آمنة ومزدهرة فى الأراضى المحتلة تحت وطأة ورحمة الاحتلال. ألهذا قال بنيامين نتنياهو إن هذا العام ستشهد القدس مفاجأة فى احتفالات الميلاد؟ فمنذ توافد المُقَدِسين الأمريكيين إلى «أرض الموعد» دعما للكيان الصهيونى قبل الانتفاضة الأولى، ويسعى الغرب دون الحيلولة لإقناع العرب المسيحيين بضرورة حمايتهم من حكامهم المسلمين. أما اليوم فنرى فى هذه الأيام المقدسة وصول جموع غفيرة من المُقَدِسين الأمريكيين والأوروبيين للاحتفال بعيد الميلاد. فتحت غطاء السياحة الدينية والتقديس نرى عملية معقدة لسلب أراضى سكان القدس، فنفهم من ذلك أن خطة نتنياهو تتمحور حول طرح القدس كمقصد سياحى دينى دون أى تفاعل مع الشعب الفلسطينى العربى الكائن هناك، ويكأن المدينة كانت فى يد الصهاينة تاريخيا وفعليا. وكأن حين قالت فيروز جملتها «من أجلك يا مدينة الصلاة نصلى»، كانت تقصد جميع الناس دونا عن سكانها العرب. إن جزءا من الخطة الأيديولوجية لمحو الإرث العربى المسيحى يقوم على نصب مسيحية غربية مكان نظيرها العربى بدعم كاثوليكى وبروتستانتى تبشيرى، كى تصور إسرائيل على أنها حاضنة للمسيحية وسط دول عربية متشددة معادية للمسيحية.
كل هذا تم فى الآونة السابقة دون علم أغلب المصريين ودون أدنى اهتمام، فتم شراء عقارات الكنيسة الأرثوذوكسية اليونانية التى ترعى شعبها الفلسطينى من قبل رجال أعمال إسرائيليين مثل ديفيد صوفر المقيم فى لندن ورجل الأعمال الأمريكى مايكل شتاينهارت. كل هذا تم تحت مزاعم التخلص من دين الكنيسة ولكن سرعان ما بدأ عملية طرد مستأجرى تلك العقارات تمهيدا ربما لعملية تهويد للقدس أو صفقة ما. كل هذا تم دون أى التفات أو اهتمام عربى.
***
جاءت هذه التحركات المسيحية الصهيونية وسط تنسيق ليس فقط إسرائيليا بل أمريكيا أيضا. فحتى ترامب يسير على هذا الدرب ويشرعن سياسته على نوعٍ من أنواعِ الشرعية المسيحية لحكمه، فبإصداره القرار الرئاسى العنصرى بحذر سفر بعض الفئات والجنسيات المسلمة للولايات المتحدة نرى انحيازه العنصرى ضد بلاد مسلمة. لا داعى للقارئ أن يبذل جهدا فى البحث عن التطبيق العنصرى لسياسات ترامب، ففى ديباجة قرار ترامب نصٌ صريح يستند لاضطهاد مسيحيى الشرق الأوسط، رابطا بين محنتهم، التى أنتجت نتيجة اجتياح العراق وخلق فجوة استغلتها تنظيمات متأسلمة، وسياساته الهجرية التى يدعى هو أنها لابد أن تستوعب هؤلاء المسيحيين المضطهدين عبر إعادة توطينهم. السخرية فى الأمر أن قراره الرئاسى بحذر دخول بعض فئات المهاجرين لأمريكا نُفذ ضد مسيحيين من سوريا. لذا يمكننا أن نجزم أن هذه القرارات تعود لأغراض أخرى وليست من أجل عيون مسيحيى الشرق الأوسط، لكن يبقى السؤال إذن ماذا يريد ترامب من مسيحيى الشرق الأوسط؟
فى رأيى أن مساعى ترامب لا تختلف عن مساعى الكيان الإسرائيلى، فجاءت بعض الإيحاءات بضرورة «نقل» الفلسطينيين للأردن أو لسيناء بالتزامن مع طرح مصر أيضا كمقصد سياحى دينى عبر فكرة «رحلة العائلة المقدسة»، أليست مصادفة عجيبة أن يُؤخذ من الكنيسة القبطية، أو يحاول أن يُؤخذ منها، ديرها القديم الذى يشهد على وجودها منذ القرن الحادى عشر وسط ترحيب من العالم المسيحى فى الغرب (أقول مسيحيى الغرب لأنى أخشى أن يقع القارئ فى اختزال المسيحية فى مسيحييِ أوروبا وأمريكا) بمزار رحلة العائلة المقدسة ومحاولات «للتقارب» و«التفاهم» من أجل الاحتفال بعيد ميلاد فى يومٍ واحد. فبتبنى ترامب ونتنياهو أجندة إرسالية، ورفعهم راية المسيحيين المضطهدين فى الشرق الأوسط، يسعى كلاهما لمحو هوية القدس، تمهيدا ليسكنها مسيحيو الغرب المُقَدِسين، أولئك المسيحيون الذين دعموا إسرائيل أثناء الانتفاضات السابقة عبر رحلات تقديس أثناء لُب الهجمات ضد سكان فلسطين بما فيها كنائسها التى ضربت بالنار.
لم يألُ نتنياهو جهدا حتى أبرم بعض الصفقات العقارية وسط اعتراضات ومظاهرات فى القدس حتى إن إحدى العائلات الفلسطينية العريقة أُحرجت بما فعله أحد أعضائها المدعو أديب جودة من تسريب عقار حتى سحبت منه العائلة مفاتيح كنيسة القيامة لبيعه عقارا فى عقبة درويش فى القدس. إن لعائلة آل جودة تاريخا طويلا فى حماية مفاتيح كنيسة القيامة، حيث حافظت عليه منذ القرن العاشر حتى الفتوحات العثمانية. يرتبط تاريخ هذه المفاتيح والعائلة بتاريخ دير السلطان، فكلاهما لم يُسحب من مُلاكه وأمنائه الأصليين إلا أثناء حملة الصليبيين ثم عاد كلاهما بعدها بمجىء صلاح الدين والدولة العثمانية التى أصدرت فرمانات بملكية الدير للأقباط وائتمان مفاتيح كنيسة القيامة لآل الجودة. هذا التاريخ هو ما تعتبره إسرائيل وأمريكا أحد العراقيل التى تقف أما مخططها لتصوير العرب على أنهم يضطهدون العرب كى ينصبوا أنفسهم حامين لهم، ولا كسوف ولا تناقض فى هذا القول وفى القول إن هناك حكومات عربية تمارس تمييزا ضد مسيحييها مثلما هناك تمييز للمرأة وللصوفيين والنوبيين والبهائيين وإن كان لكل منهم حالته الخاصة التاريخية والاجتماعية. بل أغلب من يمارسون هذا التمييز يسعون لتسييس هذا الملف لصالحهم فى هذا الصراع. ولكن هذا لا يعنى أن وسط عمليات الاستيطان والاستعمار وخطط نتنياهو وترامب إن ليس هناك من يخطط معهم فى الداخل.
***
يخبرنا الأسقف المتنيح للكرسى الأورشليمى فى القدس منذ ١٩٦٠ حتى ١٩٩١، الأنبا باسيليوس الرابع، أنه حين بدأت الحملة الصليبية وتمكنت من القدس قام الرهبان الأغسطينيون (Augustinian) باحتلال دير السلطان لكن عاد الدير لحيازة الرهبان الأقباط فى أيام الأنبا باسيليوس الأول، مطران القدس فى ١٢٦٠ــ ١٢٣٦ حتى سار مصان أثناء حكم المماليك والدولة العثمانية. أما باقى القصة الخاصة باعتداء السلطات الاستعمارية الصهيونية على الأقباط وسلب الدير من الكنيسة القبطية وإعطائه للأحباش فهو معروف، ويتكرر حتى اليوم حين حاولت السلطات الصهيونية مجددا الدخول للدير للقيام بأعمال «ترميم»، أى تهويد للدير وربما سلب الوثائق التاريخية التى تثبت حقوق الأقباط للدير.
لكن ما هو ليس معلوما هو أنه قبل أن تعطى إسرائيل دير السلطان للأحباش فإن هناك من شق الصف العربى وقام هو أولا بإلقاء الحجارة. ففى عام ١٩٦٠ قامت السلطات الأردنية فى صورة الحاكم الأردنى للقدس بفتح ملف دير السلطان لكن رفض الأنبا باسيليوس الرابع فتح هذا الملف وأرسل إشارة للبطرك البابا كيرلس السادس الذى قام بدوره بإرسال تلغراف لرئيس وزراء الأردن يعترض على تصرفات الحاكم الأردنى. أرسل البابا كيرلس السادس تعليمات للأنبا باسيليوس الرابع بالامتناع عن حضور أى اجتماعات تناقش ملف دير السلطان وادعاءات الأحباش بوجود تنازع حول ملكيته، إلا أنه فى عام ١٩٦١ اُستدعى الأنبا باسيليوس الرابع من قبل حاكم القدس وسُلم نسخة من قرار بنقل ملكية الدير للأحباش. رفض الأنبا باسيليوس القرار وطلب وقتا للتشاور مع السلطات العليا، فى المقابل رفض الحاكم هذا التصرف وطالبه بتسليم الدير فورا ولكن لم يقبل الأنبا باسيليوس وتمسك برفضه تسليم الدير إلا أنه نفذ حاكم القدس الأردنى هذا القرار عنوة بقوة عسكرية أردنية حتى عَسكرت قوات أردنية داخل الدير. لم يفلح الأنبا باسيليوس بإقناع ملك الأردن بإعادة النظر فى الأمر وانقطع الاتصال بين الأنبا باسيليوس والبطرك فى القاهرة نتيجة تأزم العلاقات المصرية الأردنية وتدهورت العلاقات بينهما نظرا للهجمات الإعلامية التى كانت تقوم بها مصر ضد الممالك الموالية للمعسكر الأمريكى أيام عبدالناصر. كُلف أحد الرهبان بالنزول للقاهرة حاملا رسالة استنجاد شفوية للبطرك تخبره بآخر تطورات القضية وطالبت الكنيسة القبطية تدخل الدولة المصرية واستعمال بعض كروت الضغط مثل قيام الكنيسة القبطية بإلغاء جميع رحلات التقديس تنديدا بتصرفات الأردن وقامت البطريركية بإرسال وفد فى مارس من ١٩٦١ لملك الأردن ليثنيه عن قراره حتى تم تسليم الدير للكنيسة القبطية فى أبريل من ١٩٦١.
***
أخشى أن يكون هناك من يرمح بيننا وهو يعانى من متلازمة كامب ديفيد، ويسعى على نهج الأردنيين فى ١٩٦١ اليوم ينتظر اللحظة السانحة لتقديم مزيد من التنازلات من أجل «سلام» لا يساوى حتى الحبر الذى سيُكتب به. فيا ليت بعض المصريين يدركون أن ما يحاك للمسجد الأقصى من خطط لتهويده وهدمه تحت مزاعم التنقيب عن الهيكل الثالث، اقرأ «تشييد» هيكل ثالث، هو بالضبط ما يحاك لممتلكات الكنيسة القبطية فى القدس بما فيه دير السلطان، وربما حتى يسبق تحركات أكبر ضد القضية الفلسطينية. أخشى أن يُقال للأجيال الصاعدة إنه حين قالت فيروز «الُقدس لنَا والأرضُ لنَا» يفهم على أنها كانت تقصد جميع البشرية وأن نون الجماعة تعنى «كُلنا»و«جيراننا» الذين أقامنا معهم سلاما دافئا.