موكب المومياوات.. العودة إلى البحث فى أصولنا الثقافية - كريم ملاك - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 1:46 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

موكب المومياوات.. العودة إلى البحث فى أصولنا الثقافية

نشر فى : الخميس 22 أبريل 2021 - 7:30 م | آخر تحديث : الخميس 22 أبريل 2021 - 7:30 م
خرجت المومياواتُ الملكيةُ فى موكبٍ مهيبٍ مِن متحف ميدان التحرير لمتحف الحضارة المصرية فى حفل مهيب خُلد فى أذهان المصريين والعالم أجمعين. كان الموكب بمثابة رسالة عالمية مفادها أن المصريين قادرون على الحفاظ على تراثهم وتقديم الاحترام اللائق للحضارة المصرية، وهو الأمر الذى يترتب عليه خلع عباءة الاستعمار الأخيرة التى كانت تتذرع بعدم احترام المصريين حضارة الماضى والمصريين القدماء، مما استدعى وجود بعثات أثرية لما تتمتع به بخبرات وموارد ووعى بأهمية هذه الآثار. كانت الرسالة فى موكب المومياوات واضحة فى محتواها، إذ فتحت صفحةً جديدةً مقابل سنين القرن التاسع عشر، حين كانت هذه البعثات تخترق مصر كى ينهبوا الآثار ويودعوها فى متاحفهم لأنها، حسب مزاعمهم، كانت أأمن، وهناك على الأقل تحظى بقدر كبير من الاحترام بدءا من عصر محمد على، الذى كان سيبنى القناطر بحجر الأهرامات، مقابل لصوص وتجار الآثار اليوم الذين يبيعون الآثار لمتاحف خاصة وصالات المزادات فى الخارج، فما الداعى لمنع عرضها فى متاحف أوروبية عامة بدلا من متاحف أوروبية خاصة تنشط على تجارة الآثار وفى أغلب الوقت لا تعرض كل مقتنياتها لعامة الناس؟ ولكن، جاء موكب المومياوات وافتتاح متحف الحضارة المصرية ليدحض كل هذه المزاعم وليسطر تاريخا جديدا لمعاملة الآثار من قبل الدولة وتشجيع السياحة، أو هكذا بات الأمر على السطح.
ولكن سرعان ما تبلورت عدة مشاكل عويصة تطرقت لمحتوى الحضارة المصرية القديمة، بدلا من العرض الباهر والاحتفاء بالموكب، انتشر سؤال هدد نجاح الموكب: كيف لغير المصريين أن يشاركوا فى الموكب، حتى وإن كانوا ذا ملامح مصرية؟ ومن هنا ظهرت مشكلة أعمق تنذر بعودتنا لمفاهيم استعمارية عن الحضارة المصرية القديمة كأداة للسلطة: مَن هم المصريون القدماء، وماذا كان لون بشرتهم؟ هل كانوا بالفعل بيض؟
***
فى حقيقة الأمر هذا هو السؤال الذى طرح فى مؤتمر اليونيسكو الذى استضافته القاهرة منذ ٢٨ يناير حتى ٣ فبراير عام ١٩٧٤، كان هذا المؤتمر مخصصا للكتابات عن الحضارة الأفريقية، وفيه طرح عدة أسئلة: ما هى جذور الحضارة المصرية القديمة، وما كانت علاقتها بجيرانها فى مملكة الپُنت (Punt) وبلاد الكش (أى ما سُمى لاحقا بمملكة السنار لشعب الفنج ثم بلاد السودان التى شملت إريتريا وإثيوبيا وبعض أراضى الصومال)؟
خرج المؤتمر بعدة أطروحات سُجلت فى مجلدات قيمة تحت عنوان، وهنا يا عزيزى القارئ لا تندهش، «التاريخ العام لأفريقيا». سطرت هذه المجلدات عدة قراءات مغايرة لتاريخ الحضارة المصرية بناءً على عدة برديات ومصادر مختلفة التى سجلها الشيخ السنغالى أنتا ديوب (Cheikh Anta Diop)، من ضمن عشرين مشاركا للمؤتمر، عشرة أوروبيين، وأمريكى، وسودانى، وستة مصريين وزميل ديوب المتخصص فى علم المصريات من الكونجو ثيوبيل وابينجاو. جاءت هذه المحطة المهمة فى مساعى علماء الآثار والحضارة المصرية الأفارقة لفك سيطرة السردية الأوروبية على الحضارة المصرية القديمة لكن دون أن تجنى أى ثمار مباشرة، لكن بقت المجلدات كمحطة مهمة، وإن كانت تفتقر إجماع الحضور.
لم يتفق العلماء المصريون فى السبعينيات مع ديوب الذى رجح أن الحضارة المصرية القديمة تعد حضارة إفريقية. وهو ما، مثل اليوم، لم يلق ترحيبا من مصريين مقتنعين بسردية طه حسين وعباس العقاد والخديوى اسماعيل، أى إن مصر امتداد لأوروبا، الأمر الذى، إذا نظرت يا عزيزى لصفحة Egypt Memory على موقع التواصل الاجتماعى على فيسبوك، سترى أن هذه السردية قائمة حتى اليوم. فعلى تلك الصفحة ستجد صورة منشورة بتاريخ ١٠ أبريل لنقوشات فرعونية «للملك المصرى رمسيس الثانى وهو يقوم بتأديب أعداء مصر من الجنوب»، ولكن أولئك الأعداء، حسب القائمين على هذه الصفحة، كانوا ذا ملامح مختلفة، فى إشارة لجيران القدماء المصريين فى الجنوب والغرب. وبهذا يتضح لنا أن التوجيه الإعلامى لتلك الصفحة يشجع على إخفاق كبير، كأن الشعب المصرى كان، منذ فجر التاريخ، غير متصل بأفريقيا بل كان مسيطرا عليهم، الأمر الذى تؤكده آلاف التعليقات الأوتوماتيكية على هذه الصفحة التى تقول «التاريخ يعيد نفسه»، فى إشارة للأحداث الراهنة.
وللأسف، لو كان القائمون على هذه الصفحة يفقهون شيئا فى الآثار والحضارة المصرية، لأدركوا أنهم يزيدون الطينة بلة. فتلك المزاعم الكولونيالية، أى أن المصريين يرون أنفسهم أنهم شعب أبيض ويريدون أن يستعبدوا الشعوب السود ويسلبوا منهم حقهم فى مياه النيل، هى ما ترددها إثيوبيا لأمريكا. فإذا قرأوا صحف أمريكا سيدركون نجاح اللوبى الإثيوبى مؤخرا فى أن يقتنص عدة أشخاص مثل القس جيسى جاكسون لقضيتهم، والذى قام بدوره بإرسال خطاب لمجموعة لائتلاف السود داخل الكونجرس (Congressional Black Caucus)، يناشدهم بتمرير قرار يدين الممارسات الاستعمارية الجديدة من قبل مصر فى سلب حقوق إثيوبيا المائية.
ولكن حتى هذا الخطاب الأمريكى، الذى يركز على عداءة مصر العرقية لإثيوبيا، أيضا يزيف التاريخ. فبدلا من تركيز وزير السياحة والآثار على الموكب والإضاءة وترتيباته، و«اللقطة»، كان من الأفضل أن يذكر لنا تاريخ إحدى الملكات التى تم نقل مومياوتها فى الموكب كى يدحض هذه المزاعم. ففى معبد الملكة حتشبسوت فى الدير البحرى هناك رسومات على جدران المعبد لمملكة الپُنت (Punt) فى جنوب السودان وشمال شرق إثيوبيا وأريتريا وأجزاء من الصومال. كان قدماء المصريين على علاقة جيدة منذ المملكة الخامسة مع مملكة الپُنت حيث كانوا يشترون منهم الخشب والذهب والحيوانات وجلودها. ولأن هذه العلاقة التجارية كانت ذات أهمية استراتيجية للملكة حتشبسوت، خُلدت على جدران معبدها، وهو ما يعنى أن كان هناك صلات ورباطات تجمعهم ببعض. ولكن للأسف هذه الأولويات لا يتم إبرازها بصورة صحيحة.
***
إذن القضية ليست الاحتفاء بقدرتنا على الحفاظ على آثارنا واحترامها وتنظيم موكب يليق بها، بقدر ما السؤال يجب أن يكون كيف نوظف هذه الآثار فى سرديتنا الوطنية؟، فهل تُستخدم ككارت لبناء ذاكرة وطنية شوفينية تنكر أصولنا الأفريقية وتزعم أن المصريين شعب أورومتوسطى أبيض؟ إذا كانت الإجابة نعم، فنحن أمام كارثة مكتملة الأركان، حين نقول ما كان يفعله الإنجليز حين زعموا أنهم يحمون الحضارة المصرية القديمة من شعب جاهل لا يفهمها، ويزعمون أن المصريين القدماء هم، كما كان يقول هيرودوتس، جزء من الحضارة الإغريقية ثم الهلنستية. وكأننا عبر ولعنا باللون الأبيض والعيون الزرقاء نقول للعالم ما كان يُقال لنا من أولئك البعثات الاستعمارية التى كانت تسرق المسلات إلى أوروبا؛ نعم نحن أيضا أوروبيون، نعم نحن أيضا شعب أبيض. فبدلا من أن نتحلى بالإرث الاستعمارى والسردية التى كانت تقول هذه حضارة قديمة غير متصلة بحاضرها، نقول نعم نحن أحفاد أولئك العظماء، ونحن، المصريون، شعب أورومتوسطى. وفى وسط احتفالات هذه المواكب ننسى ونتناسى صلتنا الأفريقية ورباطات وادى النيل بتناقضاته ومشاكله.
التمست هذا الأمر بنفسى وأنا هنا فى أمريكا، حين أهدانى صديق صورة قديمة لعبدالناصر والزعيم بن بلة، فذهبت لأبروز الصورة فى محل قريب لمسكنى فى ضاحية هارلم (Harlem) وللوهلة الأولى وجدت هناك صورة ضخمة للعذراء مريم برموز قبطية، فتعجبت كثيرا، لكنى حين نظرت مرةً أخرى وجدتها ذات سمار داكن، فسألت العامل فى المحل من قام بشرائها فقال لى إنه لديه زبون إثيوبى يسكن هنا فى هارلم من ضمن المجتمع الإثيوبى القديم الذى هاجر لنيويورك وأخذ هارلم كموطنٍ بديلٍ لهم منذ عدة عقود، عندما اندلعت الحرب الأهلية الإثيوبية التى بدأت فى ١٩٧٤. حينئذ، تذكرت أن حتى صور العذراء مريم فى كنائسنا فى مصر ذات بشرة بيضاء نتيجة ولعنا باللون الأبيض. ولكن هنا فى أمريكا ما زال الإثيوبيون والإثيوبيات يحافظون على هويتهم كأفريقيين ورباطات وادى النيل التى تجمعهم بمصر ممثلة فى تلك الصورة ورموزها القبطية، فمتى نتذكر نحن المصريون رباطات وادى النيل؟
كريم ملاك باحث دكتوراه بجامعة كولومبيا - نيويورك
التعليقات