مضى كل شىء مفاجئا وسريا، لم يكن هناك ما يشير إليه، أو يوحى باحتماله، أحيطت مقدماته وترتيباته ونتائجه بتكتم شديد قبل أن تتولى، كالعادة، إسرائيل مهمة تسريب المعلومات الأولية عنه عبر وسائل الإعلام الدولية.
بعد أسبوع واحد من احتفالية البيت الأبيض بإطلاق ما تعرف إعلاميا بـ«صفقة القرن» لتسوية الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى جرت صفقة أخرى فى العاصمة الأوغندية عنتيبى ضربت بوقت واحد القضية الفلسطينية فى عمقها العربى بالتطبيع المجانى والثورة السودانية فى شرعيتها الأخلاقية والسياسية ومستقبلها نفسه.
الفرضية الرئيسية فى لقاء عنتيبى الصادم بتوقيته ومغزاه بين «عبدالفتاح البرهان» رئيس المجلس السيادى السودانى و«بنيامين نتنياهو» رئيس الوزراء الإسرائيلى أن هناك مقايضة بين التطبيع مع إسرائيل ورفع اسم السودان من على اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب.
كان ترحيب وزير الخارجية الأمريكية «مايك بومبيو» سريعا ومبشرا بصفحة جديدة فى العلاقات الأمريكية السودانية، دون أن يتعهد بأى إجراءات عملية ترفع العقوبات عن اقتصاد مثقل بأزماته المستعصية، رغم أن الشعب السودانى أطاح قبل أكثر من عام بنظام «عمر البشير» المتهم بالإرهاب وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
فى التأجيل ابتزاز لخطوات أخرى يتطلع إليها «نتنياهو»، الذى تلاحقه رسميا تهمتى الرشى والاحتيال، قبل الانتخابات الإسرائيلية مطلع مارس المقبل، كطوق إنقاذ جديد بعد أن فشلت «صفقة القرن» فى تحسين مركزه الانتخابى.
فى تفسير «البرهان» للخطوة، التى أقدم عليها منفردا مع حلقة ضيقة من العسكريين السودانيين، بأنها لـ«مصلحة السودان».
لم يستشر أحدا من النصف المدنى فى مجلس السيادة، ولا أطلع مجلس الوزراء الذى يمثل «السلطة التنفيذية العليا للدولة» بحسب الوثيقة الدستورية، الذى تولى منصبه على أساسها، ولا كانت وزيرة خارجيته فى صورة الحدث الخطير.
من الذى يقرر إذن مصلحة السودان فى مثل هذه الملفات الخطيرة والحساسة؟!
وفق «قوى إعلان الحرية والتغيير»، الرافعة الرئيسية للحراك الشعبى السودانى التى أطاحت الرئيس السابق «البشير»، فإن ما أقدم عليه «البرهان» تجاوز خطير للوثيقة الدستورية.
السجال الدستورى يطرح نفسه موضوعا أول فى السودان بعد صدمة عنتيبى، غير أن القضية فى جوهرها تتجاوز النصوص التى لا تتيح لـ«البرهان» الإقدام على مثل هذه الخطوة التطبيعية إلى نظرة السودان إلى نفسه وتاريخه ومستقبل ثورته.
أخطر ما جرى فى عنتيبى الفصل بين التطبيع مع إسرائيل والقضية الفلسطينية، كأنه ممكن ومستساغ بغض النظر عما يلحق بها من عصف وتنكيل.
فى الفصل تنكر لمبادرة السلام العربية، التى تنص على التطبيع الكامل مقابل الانسحاب الشامل من الأراضى العربية المحتلة منذ عام (1967)، التى أكدت السودان التزامها بها قبل أيام وساعات فى الاجتماع الوزارى العربى بالقاهرة.
لم يكن السودان أول دولة عربية تخرق المبادرة، أو تتحدث بنصوصها فيما تستخف بجوهرها، فهناك اتصالات وعلاقات على مستويات مختلفة لدول عربية عديدة مع إسرائيل تجرى فى السر والعلن دون أدنى اعتبار لأى حقوق فلسطينية، غير أن صدمة عنتيبى تكتسب وجعا خاصا من رمزية السودان.
فهو البلد الذى استضاف القمة العربية التى صاغت أعقاب هزيمة يونيو (1967) شعار «لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف»، كما أن ثورته الشعبية اكتسبت إلهامها من نبل مقاصدها فى بناء دولة ديمقراطية حديثة لا دولة تابعة تنسحق أمام إغواءات التطبيع مع الاحتلال على حساب قضية تتعرض للتصفية بالمخالفة الفاحشة للقرارات والقوانين الدولية.
الفكرة الجوهرية فى الخروقات العربية لجدار التطبيع أن إسرائيل تملك مفاتيح القوة والنفوذ فى البيت الأبيض، وأن مد الصلات معها من مستلزمات الحفاظ على النظم.
إن خرق الإرث السودانى التقليدى فى دعم القضية الفلسطينية يضع المرحلة الانتقالية الحالية تحت أسوأ السيناريوهات.
بإرث التاريخ خضع السودان منذ استقلاله عام (1956) لما يشبه «الباب الدوار» بين الحكم المدنى والانقلاب العسكرى، الأول لم يؤسس لديمقراطية حديثة حيث هيمنت عليها القوى التقليدية والطائفية واستبعدت تقريبا القوى الحديثة.. والثانى أفضى إلى أزمات وحروب وانهيارات فى مكانة السودان فضلا عما هو منسوب إلى تجاربه المختلفة من قمع مفرط.
احتمالات الانقلاب العسكرى غير مستبعدة الآن، فقد تراجع زخم الحراك الشعبى، والتفكك نال من مكونات «قوى إعلان الحرية والتغيير»، وإغواء البقاء فى السلطة يخيم فى المكان.
كانت الوثيقة الدستورية فى صلبها العملى أقرب إلى تقاسم للسلطة بين المجلس العسكرى الانتقالى وقوى إعلان الحرية والتغيير.
لم يكن يحق لأحد من قيادات الحرية والتغيير، أن يتولى أى موقع تنفيذى، سيادى أو وزارى، خلال المرحلة الانتقالية تجنبا لأى مشاحنات حزبية، أو أن تفتقد التحالفات تماسكها وقدرتها على الإشراف العام على مدى الالتزام بنصوص الوثائق الموقعة.
كان ذلك تفكيرا مثاليا أفضى إلى تجريد المناصب السيادية والتنفيذية من حيوية الثورة وإحالتها إلى مجموعة من التكنوقراط المستقلين، جرى الاستهتار بوجودهم نفسه فى صدمة عنتيبى.
كان تعطيل استحقاق «المجلس التشريعى»، الذى يتولى سلطة التشريع والرقابة على أداء الجهاز التنفيذى، بأسباب غير متماسكة وغير مقنعة تمهيدا ما لتحول فى طبيعة السلطة تبدت مقدماته فى عنتيبى.
تعطيل المرحلة الانتقالية عنوان رئيسى لما قد يحدث فى السودان بالأيام والأسابيع المقبلة.
وفق الوثيقة الدستورية فقد تولى «البرهان» رئاسة المجلس السيادى ممثلا للمكون العسكرى لمدة واحد وعشرين شهرا، بعدها يفترض أن تنقل الرئاسة إلى أحد أعضاء المكون المدنى، كما لا يحق له أو لغيره الترشح لأية مناصب فى الدولة بأول انتخابات تجرى بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.
قد يكون من بين أسبابه للقاء «نتنياهو» تغيير طبيعة دوره من رئيس مؤقت لمجلس سيادى انتقالى إلى رئيس دائم بدعم إقليمى ودولى.
هذه نذر لدخول جديد من «الباب الدوار» تجهض الثورة فى مهدها.
ثمة رهان ما على الإحباط، الذى يمكن أن يسود قطاعات واسعة من السودانيين، من حجم التحسن فى الأحوال المعيشية المتردية بالقياس على الأسقف العالية، التى رافقت زخم الحراك، للانقلاب على الثورة نفسها باسم «مصلحة السودان».
يكاد أن يكون مستحيلا التطلع إلى تجاوز الأحوال السودانية الصعبة دون وضع حد للحروب الداخلية وإعادة دمج للحركات المسلحة فى البنية السياسية للبلد وتغيير البيئة العامة، التى تحرض على العنف والفساد والاستبداد.
يفترض نظريا أن تستغرق قضية الحرب والسلام الستة أشهر الأولى من المرحلة الانتقالية، وهو ما لم يحدث دون تفسير مقنع يجيب على سؤال: من يتحمل المسئولية؟
القفز إلى عنتيبى تعبير عن حالة انكشاف سياسى واستراتيجى فى السودان، كما هو تعبير آخر عن انكشاف سياسى واستراتيجى فى العالم العربى، كأننا أمام صدمة مزدوجة جرت فى العاصمة الأوغندية، غير أن الرد بقوة الحقائق لن يتأخر طويلا.