تتواصل رحلة المقاومة الشعبية فى الدلتا مع توغل قوات الحملة الفرنسية فيها، تلك المقاومة التى لعب الفلاح المصرى الدور الأساسى والفاعل فيها.
ونتوقف عن مشهد من أهم مشاهد المقاومة، وقائع ما حدث للفرنسيين فى محافظتى الدقهلية ودمياط، وللمحافظتين تاريخ عريق فى مقاومة الفرنسيين منذ حملة لويس التاسع فى القرن الثالث عشر والتى هزمت عند مدينة المنصورة.
فى أوائل أغسطس سنة 1798 عين بونابرت أحد قادة حملته الجنرال فايل قومندانا لمديريتى المنصورة ودمياط، فتوجه القائد الفرنسى بقواته إلى الأقليم الذين عين حاكما له.
وفى الأسبوع الأول من أغسطس وصل فيال إلى المنصورة، وتصور أن المدينة خضعت له، فترك بها حامية مكونة من مائة وخمسين رجلا، واتجه إلى دمياط؛ فاحتل المدينة واحتل عزبة برج، وجعل من مدينة دمياط مقرا للقسم الأكبر من فرقته، لكن تصورات فيال كان بعيدة تماما عن الواقع؛ ففى يوم 10 أغسطس، وكان اليوم يوما لسوق مدينة المنصورة، وفد على المدينة مئات من سكان البلدان المجاورة تحت ستار السوق الأسبوعية، وما هى إلا ساعات قليلة حتى أعلنت المدينة بكاملها الثورة على الحامية الفرنسية، وخرج الرجال والنساء لحصار معسكر القوات الفرنسية وأشعلوا فيه النيران، وأمام قوة الهجوم قرر جنود الحامية الفرنسية الفرار إلى دمياط واللحاق بقائدهم هناك عبر النيل، لكن الأهالى حاصروا القوات الفرنسية وقضوا عليها عن آخرها باستثناء جنديين وقعا فى الأسر وثالث فر إلى دمياط.
وشجعت أحداث العاشر من أغسطس فى المنصورة أهالى الدقهلية على الثورة ضد الاحتلال الفرنسى، لكن بونابرت كان قد عين الجنرال دوجا أحد قادته الكبار قومندانا للمنصورة ووجهه بقوة كبيرة إلى هناك، وكان دوجا حكيما فى تصرفه، فلم يلجأ إلى العقاب الجماعى لأهالى المنصورة حتى لا يزيد نار الثورة اشتعالا، بعد أن ثبت لقادة الحملة أن إعدام الأهالى وإحراق المدن والقرى لا يؤدى إلا إلى مزيد من المقاومة. لقد حاول دوجا أن يتتبع قادة المقاومة الشعبية وزعماءها داخل المنصورة وخارجها؛ فقبض على اثنين من أهالى المنصورة وأعدمهما، وأمر بتتبع اثنين آخرين من قادة الثوار للقبض عليهما. وقد أقر بونابرت دوجا فى خطته فى التعامل مع الثورة الشعبية فى الدقهلية، وهى خطة تعتمد على الموائمة بين أسلوبى اللين والبطش، الوعد بالعفو والوعيد بالانتقام. ومع ذلك لقى الفرنسيون صعابا جمة فى إخضاع الدقهلية لسيطرتهم، وكان جباة الضرائب كلما ذهبوا إلى قرية لجمع الأموال أو مصادرة أملاك المماليك واجههم الأهالى بالرصاص والعصى.
وعلى مدى شهرين توالت انتفاضات الفلاحين والعرب فى قرى ومدن الدقهلية، وتمتلئ التقارير العسكرية للحملة بأخبار المقاومة فى ميت غمر وسنباط والمنزلة وغيرها من البلاد، وأصبح انتظام الملاحة النهرية فى فرع دمياط مهددا بفضل أعمال المقاومة الشعبية المستمرة التى أثارت قلق الفرنسيين وخوفهم.
وخلال أحداث المقاومة الشعبية فى الدقهلية ودمياط برزت أسماء زعماء شعبيين، من هذه الأسماء على العديسى والأمير مصطفى اللذان أثبتت تحقيقات الجنرال دوجا أنهما كانا وراء ثورة المنصورة فى العاشر من أغسطس سنة 1798، وقد استمر الرجلان فى قيادة المقاومة بعد فرارهما من المنصورة فى قرى منطقة البحر الصغير والمنزلة، وكان القبض عليهما أحياء أو التخلص منهما هدفا رئيسيا للجنرال دوجا وقواته.
وفى منتصف سبتمبر سنة 1798 وجه دوجا حملة عسكرية إلى منطقة البحر الصغير، وحدد لمعاونيه أسلوب التعامل مع الثوار فى هذه المنطقة تكشف عن التحول السريع فى أسلوبه من الملاينة إلى الشدة، وقد جاء فى هذه التعليمات: «منية محلة دمنة والقباب الكبرى، هاتان القريتان واقعتان تحت تأثير رجلين يجب أسرهما، وهما على العديسى من المنية والأمير مصطفى من القباب، وقد وصلتنى رسالة من الجنرال فيال قومندان مديرية دمياط ينسب إليهما الاتصال بالشيخ حسن طوبار شيخ بلد المنزلة وانتظارهما النجدة منه، فيجب ألا يترك له الوقت لإمدادهما، ومن ثم يجب مهاجمة المنية والقباب أسرع ما تمكن السرعة، ثم احتلال موقع عسكرى بين القباب ودموه السباخ يحول بين الرجلين وكل مدد يأتيهما، وإذا قاوم الأهالى وجب سحقهم وسحق قراهم، وإذا سلموا بدون إطلاق النار فيجب عليهم أن يسلموا فى الحال عشرين رهينة منهم، وأن يسلموا كذلك جميع أسلحتهم وعشرين جوادا وثلاثين من الماشية، ويُغرّموا ثلاثة أمثال الضريبة المفروضة عليهم، وإذا رأيتم بعض القرى تتخذ السلاح لمؤازرة المنيا والقباب فاضربوا فى أهلها وخذوهم أخذ الأعداء للأعداء».
لقد كان قادة الحملة الفرنسية فى شرق الدلتا يشعرون بخطر الزعامات الشعبية، ويدركون صعوبة الأرض التى يحاربون عليها، لذلك كان دوجا يسعى إلى توجيه ضربات سريعة إلى الثوار ويحاول القبض على قادتهم.
تحرك الجنرال دماس والجنرال دستنج على رأس القوات الفرنسية من المنصورة يوم 16 سبتمبر 1798 بالسفن فى البحر الصغير فى اتجاه منية محلة دمنة والقباب الكبرى، واتخذ الأهالى أسلوبا دفاعيا جديدا حتى يصلهم المدد من المنزلة، فأخلوا القريتين تماما من السكان، ففشلت بذلك محاولات الفرنسيين فى القبض على الأمير مصطفى وعلى العديسى.
أما المعركة الكبرى فوقعت عند الجمالية وهى من البلاد التابعة لمركز دكرنس، وتقع على البحر الصغير، كانت السفن الفرنسية قد توقفت بسبب الأوحال هناك بسبب قلة المياة، فهاجم الأهالى القوات الفرنسية، واشترك فى الهجوم أهالى الجمالية، وأطلقوا النار على السفن، كما أمطروها بالحجارة من أعلى أسوار بلدتهم، وبعد معركة استمرت لأكثر من أربع ساعات اضطر الجنرال داماس إلى الانسحاب، وقبل أن تنسحب الحملة عائدة إلى المنصورة أشعلت النيران فى الجمالية، كما أحرقت فى طريق عودتها قرية ميت سلسيل؛ وقد وصف الضابط جازلاس المعركة فى تقريره عنها، قائلا: «لما وصلنا بحرا تجاه الجمالية، وهى قرية كبيرة قوية على الشاطئ الغربى من بحر أشمون، فوجئت السفن التى كانت تقل الجنود بعاصفة من الأحجار والرصاص انهالت من أسوار البلدة وبيوتها، وفى الوقت نفسه رأينا جموعا كثيرة من العرب والمماليك والفلاحين مسلحين بالبنادق والسيوف والعصى تهرع من الجهات المجاورة مسرعة إلى مهاجمتنا، وكان بعضهم راكبين الخيل وأكثرهم مشاة، فدهشنا من هذه الهجمة العنيفة، لكننا لم نؤخذ على غرة، ونزلت الجنود حاملة سلاحها إلى البر الشرقى المقابل للقرية وتأهبوا للقتال منتظرين قدوم الأعداء، فرأينا أكثرهم شجاعة يغامرون بأنفسهم ويهجمون إلى أن يصبحوا فى وسط جنودنا، وقد رأيت بنفسى جماعة من الفلاحين ليس بيدهم سلاح سوى العصى يهاجموننا بحماسة فيسقطون بين أسنة رماحنا.»
ويمضى جازلاس قائلا: «وصدر لى الأمر بإطلاق النار على الأعداء المهاجمين، فأطلقنا النار عليهم، وفرقنا هذه الجموع بعد أن تركت الميدان مغطى بجثث القتلى، ولقد تمكن بعضهم من أن يعبروا الترعة ثانية ويمتنعوا فى الجمالية، وهى قرية محاطة بالأسوار تحميها ترعة أشمون من جهة والمستنقعات التى تغمرها المياه من جهة أخرى، فأمرنى الجنرال داماس أن أخذ القوة الكافية واستولى عنوة على القرية، فعبرنا الترعة بجسر أقمناه على عجل، ووزعت جنودى؛ فعهدت إلى جزء منهم رد الهجمات الآتية من خارج القرية، وهجمت بقوتى على القرية، واقتحمنا الباب الكبير رغم مقاومة أهلها الذين دافعوا عنها دفاعا قويا، فاستولينا على جزء من القرية، لكن الأهالى ظلوا يدافعون عن الجزء الآخر ممتنعين فى البيوت والشوارع، وهجم الثوار على القوة التى دخلت القرية، لكن صدتهم البنادق والحراب، وحُصر جزء منهم فى القرية، وتمكن جماعة آخرون أن يتسللوا منها، فتلقتهم القوة المرابطة حولها ونجا منهم من ألقوا بأنفسهم فى المستنقعات وذهبوا سباحة يحملون أسلحتهم».
ورغم سقوط ما يقرب من خمسمائة شهيد من أهالى الجمالية والقرى المحيطة بها، ورغم إحراق القرية فإن المعركة فى مجملها تعتبر معركة خاسرة بالنسبة للفرنسيين من الناحية العسكرية.
لقد كانت أهداف الحملة العسكرية على البحر الصغير هى قمع حركات المقاومة الشعبية والقبض على زعماء الثورة، فهل تحققت هذه الأهداف؟
لقد كانت الحملة العسكرية الفرنسية على البحر الصغير فاشلة بكل المعايير، فمن ناحية استمرت المقاومة فى إقليمى الدقهلية ودمياط وازدادت اشتعالا، ومن ناحية أخرى فشل الفرنسيون فى القبض على زعماء الثوار أو حتى أخذ رهائن من أبناء القرى التى يحتمى فيها الثوار، فقد اتبع المصريون أسلوب هجر القرى واستفادوا من فترة فيضان النيل لحماية أنفسهم خلف مياهه المرتفعة وفى وسط المستنقعات التى يشكلها فى مناطق شمال وشرق الدلتا، ورغم سقوط مئات المصريين والمصريات فى هذه المعارك، مقابل مقتل خمسة جنود وجرح خمسة وعشرين من قوات الحملة الفرنسية، فإن هذا العدد من قتلى الجيش الفرنسى رغم قلته كان مؤثرا أشد التأثير فى معنويات حملة معزولة عن بلدها تواجه شعبا ثائرا، وأهم ما فى الأمر أن أكبر زعماء المقاومة فى الدقهلية وهو الشيخ حسن طوبار شيخ الصيادين ظل طليقا يقاوم الفرنسيين لعدة أشهر أخرى، وعندما ضيقوا عليه الخناق فى جزر بحيرة المنزلة هرب مع مجموعة من رجالة إلى غزة، وهناك بدء فى إعداد العدة للعودة إلى مصر مرة أخرى، لكنه لم ينجح فى ذلك.
وبعد فشل حملة بونابرت على سوريا سُمح لطوبار بالعودة إلى المنزلة على ألا يغادرها، وتوفى بعد فترة قليلة فى 28 يوليو 1800، ومن يومها وأهالى المنزلة يحتفلون بذكراه كل سنة ويقيمون به مولدا من أشهر موالد المنطقة.