فوجئت صباحا وأنا فى إحدى سيارات الميكروباص، وأنا أتابع إذاعة القرآن الكريم الذى تعمد السائق تشغيلها صباحا، على سبيل التبارك، كعادة يومية لدى المصريين، وبعد قراءة قرآنية فى هذه الإذاعة التى تُعد من الإذاعات المتخصصة نوعيا، قد استمر المذيع فيها ولمدة فاقت الخمس دقائق يتنقل بين إعلانات التبرع لمستشفيات وأماكن علاجية مختلفة، ومؤسسات وجمعيات أهلية مختلفة الأنواع، وكان آخر إعلان مقدم كنصيحة توجيهية لمصارف زكاة رمضان قبل حلول الشهر الكريم، ولكن ما استوقفنى فعليا هو كون المذيع لم يتطرق ذهنه أو يرد إلى مخيلته تزايد عدد الفقراء فى مصر والمستحقين فعليا لزكاة رمضان بنسب لم تكن موجودة فى الماضى القريب، إلى الدرجة التى يجب أن تستدعى اهتمام كل ذى شأن عن كيفية قضاء هذه الأسر لهذا الشهر الكريم، وما يتطلبه من مصروفات أو نفقات إضافية، وما يستتبعه قدوم عيد الفطر المبارك من عادات مصرية داخل كل البيوت والتى تقتضى شراء ملابس جديدة، وما إلى ذلك من نفقات، وهو الأمر الذى دفعنى إلى القراءة عن ذلك فوجدت فى مقاله تحت عنوان «آلام متعاظمة»، يقول الباحث الاقتصادى وائل جمال: «يُشير الخبراء فى الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، التابع للحكومة، إلى أنه ربما ارتفع معدل الفقر إلى 35 فى المائة فى العام 2017، بعدما كان 27.8 فى المائة فى العام 2015، قبل بدء برنامج صندوق النقد الدولى، وحتى بعد تحديث خط الفقر الوطنى نسبةً إلى التضخم»، كما قد أظهرت المؤشرات المبدئية لبحوث الدخل والإنفاق التى يجريها الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أن معدل الفقر فى مصر بلغ نحو 30.2% مقارنة بـ 27.8% فى تقديرات عام 2015، والتى أصدرها الجهاز فى عام 2016. ووفقًا لتقرير عن «خريطة الفقر»، الذى أصدرته وزارة التنمية الاقتصادية عام 2009 فقد بلغ عدد القرى الأكثر فقرا إلى1141 قرية، وذكر التقرير أن أكثر من مليون أسرة فقيرة تعيش فى الألف قرية الأكثر فقرًا، وأن 54% من إجمالى سكان الريف فقراء، وأن ثلاث محافظات بالوجه القبلى (أسيوط – المنيا – سوهاج) تضم 794 قرية يشكل فيها الفقراء 82% من إجمالى عدد الفقراء بالألف قرية الأكثر فقرًا.
***
وبعد مراجعة لهذه البيانات أو الإحصاءات العلمية، والتى صدرت معظمها من أجهزة حكومية، زادت قناعتى بزيادة عدد الفقراء على أرض مصر، ووصل حيز تفكيرى لمساحة من التناقض الداخلى، ملخصها: أليس ذلك المذيع يعلم بتلك الحقائق الصارخة عن الوضعية الاقتصادية لمعظم المصريين؟ إلى من إذن يوجه خطابه الإعلاني؟، ومن زاوية موضوعية ثانية، كيف يعيش المصريون فى ظل ارتفاع الأسعار، وحالة التضخم التى نحياها، وتدنى الأجور؟ وكيف لهم مواجهة مثل هذه المواسم، التى تقتضى أن نعيشها بفرح وبهجة اجتماعية مختلفة؟ وكان سؤالى الذاتى الختامى ما هو المردود المنتظر لمثل هذه الإعلانات فى ظل هذه الظروف؟
فى تقرير نشره موقع المصرى اليوم بتاريخ 26 يولية 2016، وذلك بمناسبة إعلان نتائج تقرير أعده الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، عن «الدخل والإنفاق والاستهلاك فى مصر» كشف الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، أن 27.8% من السكان فى مصر فقراء ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغير الغذاء، وأن 57% من سكان ريف الوجه القبلى فقراء مقابل 19.7% من ريف الوجه البحرى، وعلى حسب ما جاء بهذا التقرير فإن هذه النسبة هى الأعلى منذ عام 2000.
***
وبمناسبة قدوم هذا الشهر القديم، وحديث إذاعة القرآن الكريم تحضرنى مقولة الراحل المبدع «جلال عامر» حين قال معلقا على حالة الفقر: «البلد دى فيها ناس عايشه كويس وناس كويس إنها عايشه!!»، فهل سيأتى هذا الشهر الكريم فى ظل تزايد عدد المحتاجين المصريين بظروف مختلفة، أو بخير كما يستبشر به المصريون دوما، وسوف يكون فى مقدرة المواطن المصرى الوفاء باحتياجاته الأساسية هو وأسرته، وكساء صغاره «كسوة العيد أم سنضطر إلى البحث على خرائط جوجل عن أماكن تواجد موائد الرحمن، التى بدأ عددها فى التضاؤل، حتى نتذوق طعم اللحم، وفعليا هل سنخرج زكاة رمضان، أم سنبحث سويا عمن يعطينا زكاته؟، وهنا يجب أن يكون للحكومة دور فاعل فى تخفيف الأعباء عن كاهل الفقراء ومتوسطى الدخل الذين تتزايد أعدادهم، حتى تلاشت الطبقة المتوسطة بين أحشاء الطبقة الفقيرة، بأن تجد لهم من الحلول الاقتصادية ما يتناسب مع تراكم الأزمات الاقتصادية، تنجو بهم ولو قليلا بعيدا عن الأمواج المتلاحقة من زيادة الأسعار، وعلى أقل تقدير ما يضمن لهم البقاء بشرف على هذه الحياة، إذ إن ذلك هو الدور الحقيقى للحكومات التى تدير البلاد فى أى دولة كانت، وأى وقت كان، حيث لا يقف دور الحكومة فقط عند حدود الأمن بمعناه اللفظى، حيث يشكل الغذاء أمنا غذائيا، وأعتقد أنه هو الأهم من الأمن بالمفهوم العام له، وخصوصا لارتباط الأمن الغذائى بمفاهيم أخرى مثل الصحة والحياة والسكن، وتدهور مستوى الغذاء يؤدى إلى تدهور فى مستوى الصحة العامة، وبالتالى لا يستطيع الأفراد، أو لا تصبح لديهم القدرة على الإنتاج، ويجب أن تتوجه السياسات العامة إلى رفع المعاناة عن كاهل المواطنين والعبور بهم من هذا النفق المظلم إلى شاطئ أكثر أمنًا، ولا يقف دور الحكومة عند الحد الذى قال فيه الساخر الراحل جلال عامر معبرا عن ذات الأزمة بقوله «الأرزاق بيد الله، والأسعار بيد الحكومة».