يثير الحراك الطلابى العالمى حول القضية الفلسطينية قضايا عديدة تختلف حولها الآراء، من هذه القضايا مثلا كيف يوصف الحراك الطلابى؟ وما هى علاقة الحراك الطلابى بالسياسة؟ وما هو موقف سلطات الحكومة منه؟ وما هو صداه لدى القوى المجتمعية ذات التأثير على الجامعات؟ وسوف يستعرض هذا المقال بعض هذه القضايا كما تتردد فى الحوار الدائر حول هذا الحراك الطلابى فى الولايات المتحدة، اعتمادا على مشاهدة محاكمة الجامعات فى الكونجرس الأمريكي، وما كتبته الصحف الأمريكية حول هذا الموضوع، وتغطية القنوات الفضائية الأمريكية له.
حراك معاد للحرب أم أقوال وأفعال معادية للسامية؟
خصوم الاحتجاجات الطلابية يصفونها بأنها عمل معاد للسامية، والصحف والقنوات الفضائية الغربية تراه خلافا بين أنصار الشعب الفلسطينى وأنصار إسرائيل. ولكن التوصيف الأصح لهذه الاحتجاجات هو ما ذكرته إلهان عمر- عضوة مجلس النواب الأمريكى - فى مداخلتها فى جلسات الاستماع التى عقدتها لجنة التعليم بالمجلس فذكرت أنها حراك لمعادين للحرب فى غزة فى مواجهة أنصار هذه الحرب.
هذا التأطير هو الذى يسمح بفهم تكون الحراك من طلاب من مختلف الأعراق والثقافات والخلفيات الثقافية، بل إن أكبر الجماعات المنظمة لهذه الاحتجاجات فى كافة الجامعات الأمريكية هى كل من جماعة «فلسطين حرة» وجماعة «صوت يهودى من أجل السلام»، وأغفل خصوم هذا الحراك فى مجلس النواب الأمريكى أن الشعار الذى كان يرفعه الطلاب فى الولايات المتحدة- بل وخارجها فى الجامعات التى شهدت هذا الحراك فى لندن وباريس وسيدنى وطوكيو - هو «أوقفوا إطلاق النار الآن». ولذلك يمكن القول أن هذا الحراك هو موجة جديدة من الاحتجاجات الطلابية دعوة للسلام، مثلما كان الحال فى الجامعات الأمريكية فى أواخر ستينيات القرن الماضى رفضا للحرب الظالمة التى كانت تشنها الولايات المتحدة على حركة التحرير الوطنى فى فيتنام.
لكن أنصار الحرب داخل مجلس النواب الأمريكى يستهويهم وصف هذا الحراك، الذى يشارك فيه الأساتذة الجامعيون إلى جانب طلابهم، بأنه خطاب معاد للسامية، وهى تهمة جاهزة ترفعها دوائر سياسية وثقافية غربية فى وجه كل من ينتقد إسرائيل. وفى الحقيقة فإن المعادين للسامية هم أنصار إسرائيل، فالعرب، وخصوصا عرب المشرق وفيهم الشعب الفلسطينى، هم ساميون بحسب التعريف العلمى للسامية، ومن ثم فالعدوان على الشعب الفلسطينى هو عدوان على الساميين، ولذلك ينبغى أن ينضم العرب إلى جانب المكافحين للسامية لأنهم هم الذين يتعرضون للعدوان الغربى، وللتهميش والتحقير فى أدوات الإعلام الغربية، وهم أبرياء من تهمة اضطهاد اليهود، الذى كانوا ضحايا له فى الدول الأوروبية وخصوصا فى روسيا القيصرية وألمانيا النازية.
أنصار إسرائيل يستهويهم اختزال مفهوم العداء للسامية ليس فقط فى الإشارة لما قد يتعرض له اليهود من تمييز، ولكن فى حجب وقمع أى نقد لسياسات إسرائيل وأعمالها العدوانية المتكررة على الشعوب العربية وفى مقدمتها الشعب الفلسطينى ومعه الشعبان السورى واللبنانى. بل يذهب بهم التطرف إلى حد اقتراح مشروع قانون يجرم انتقاد إسرائيل أو الصهيونية باعتبار ذلك عملا معاديا للسامية، وهو ما يقيد حرية التعبير فى الولايات المتحدة ذاتها التى تتعدد فيها أيضا الكتابات الناقدة لإسرائيل والجماعات الصهيونية حتى داخل الدوائر الأكاديمية.
الحراك الطلابى ولعبة السياسة فى الولايات المتحدة
يدور هذا الحراك الطلابى فى الولايات المتحدة فى سنة الانتخابات، فسوف يذهب الشعب الأمريكى بعد أقل من نصف سنة لانتخاب رئيس الولايات المتحدة وكل أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ، ولذلك سرعان ما تحولت المظاهرات المعادية لحرب غزة فى الجامعات الأمريكية إلى ورقة انتخابية لدى أعضاء مجلس النواب الأمريكى وخصوصا بين أعضاء الحزب الجمهورى، الذين يتصورون أن إظهار رفضهم لهذا الحراك ودعوتهم السلطات الجامعية للتعامل معه بحزم بمعاقبة من يشتركون فيه سوف يضمن لهم أصواتا بين ناخبيهم وناخباتهم، وربما هو نوع من إثبات الولاء تجاه من يمولون حملاتهم.
وبغض النظر عما إذا كان سلوكهم هذا يخالف ما نص عليه الدستور الأمريكى من ضرورة احترام حرية الرأى، وما يسود من عرف داخل الولايات المتحدة من الالتزام باستقلال الجامعات، وصل الأمر إلى حد أن رئيس مجلس النواب ذاته قد ذهب إلى جامعة كولومبيا التى كانت جامعة قائدة فى هذا الحراك مخاطبا الطلاب وأعضاء هيئة التدريس وكل العاملين بالجامعة، ومطالبا رئيسة الجامعة بتقديم استقالتها لأنها فى رأيه لم تنجح حتى لحظتها فى وقف هذا الحراك الطلابى. بل لم يتردد بعض أعضاء الحزب الجمهورى فى مجلس النواب فى استخدام أى حجة لتخويف رئيسة جامعة كولومبيا ومعها رؤساء الجامعات الآخرين، فقد ذهب بأحدهم الخيال إلى حد تنبيه رئيسة الجامعة بـأن التوراة تدعو لحب إسرائيل، وأن الله يعاقب من يغضبون إسرائيل، وحذرها من إغضاب الرب إن هى تمادت فى التساهل مع الطلاب وأساتذتهم الذين ينتقدون إسرائيل.
السلطات الحكومية واستقلال الجامعات
لكن هل يعنى استقلال الجامعات فى المجتمعات الليبرالية أن تمتنع سلطات الدولة؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية، عن إبداء الرأى فيما يجب أن تقوم به الجامعات؟ ليس من المتصور أن تقف سلطات الدولة بعزلة عما يجرى فى الجامعات، ولكن تدخل هذه السلطات فى شئون الجامعات يجب أن يكون محكوما بالدستور والقوانين السائدة فى مجتمع ديمقراطى، والمفروض أن الدستور الأمريكى يحمى حرية الرأى والتعبير، ولذلك فتدخل السلطة التشريعية، مثلما قام به أعضاء لجنة التعليم فى مجلس النواب يجب أن يحترم هذا النص الدستورى، بل وكما ذكرت ذلك إحدى محررات صحيفة نيويورك تايمز أن سلطات الدولة يجب أن تقدر دور الجامعة كمنبر لتبادل الآراء يعتز بل ويثريه تعدد هذه الآراء.
لكن أعضاء هذه اللجنة ذهب بهم اعتدادهم بسلطتهم إلى حد الدعوة إلى تغيير قواعد التوظيف فى الجامعة لكى تضمن الأخيرة أن الذين يريدون العمل فيها لا يحملون آراء معادية للسامية فى رأيهم، بل وأن تقوم الجامعة بفصل هؤلاء الأساتذة ممن اكتسبوا بعملهم العلمى مكانة الأساتذة الدائمين فيها إذا ما بدر منهم بعد اكتسابهم هذه المكانة «ما يكشف عن عدائهم للسامية»، بل وصل الأمر ببعضهم إلى حد اقتراح الإكثار من المقررات الدراسية عن إسرائيل، ولما اكتشف أن أحد الأساتذة الدائمين المغضوب عليهم، وهو الأستاذ جوزيف مسعد، له من الشعبية بين الطلاب إلى حد أن عدد الطلاب فى مقرره يفوق بثلاثة أمثال عدد الطلاب فى مقررين آخرين عن إسرائيل، طالب الجامعة بأن تبحث سبب ذلك والأفكار التى، فى رأيه، يلقنها للطلاب، بل وطالب الجامعة بأن تتخذ موقفا حازما تجاه أستاذ آخر من أصل فلسطينى وهو الأستاذ رشيد الخالدى، وكان لى حظ اللقاء به فى القاهرة وهو يلقى الاحترام الكبير لجدية كتاباته، والذى يدعوه لطلب ذلك هو انتقاد الخالدى لإسرائيل.
الجامعات ومصادر التمويل
هكذا تجد الإدارات الجامعية فى الدول الرأسمالية نفسها بين شقى الرحى عندما تتخطى حدود الإيديولوجيا والمصلحة التى تفرضها كل من سلطات الدولة وأصحاب الثروة فى هذه المجتمعات. الجامعات سواء كانت من الجامعات العامة أو الخاصة تعتمد على التمويل الذى تتلقاه من الحكومة ومن الشركات الكبرى، ليس كرشوة ولكن إما مساعدة لها فى حال الحكومة وبعض الأثرياء، وإما لتمكينها من القيام بمشروعات بحثية فى كافة المجالات، ولا تستطيع الجامعات بما فى ذلك الأكثر ثراء مثل جامعات هارفارد وييل وكاليفورنيا فى لوس أنجلوس أو برنستون أن تعتمد فقط على الرسوم الدراسية الباهظة التى يدفعها طلابها، ولذلك تخشى إدارات هذه الجامعات من توقف هذا التمويل، وصاحب القرار فى هذه الجامعات ليس بالضرورة إداراتها المتخصصة، ولكن هو مجالس الأوصياء فيها التى تمثل أصحاب المصالح هؤلاء. ودعوة الطلاب أن تقاطع الجامعات الأمريكية الجامعات الإسرائيلية وأن ترفض التمويل من الشركات والأشخاص الذين يدعمون دولة إسرائيل وأن تعاقب المتعاونين فى تنفيذ السياسات العنصرية الإسرائيلية هو موقف لا يلقى التأييد من أغلب هؤلاء الأوصياء. ولذلك أيا كانت الأساليب التى يلجأ لها الطلاب فى الإعراب عن مواقفهم من هذه الحرب العدوانية التى تشنها إسرائيل، بما فى ذلك لجوء عشرات منهم إلى الإضراب عن الطعام كما هو الحال فى جامعة برنستون مؤخرا، فإن حراكهم الاحتجاجى يضع إدارات هذه الجامعات فى موقف دقيق.
ماذا يفعل الطلاب المحتجون؟ وماذا تفعل الإدارات الجامعية؟
سوف ييسر من دقة هذا الموقف أن يلتزم الطلاب المحتجون والإدارات الجامعية ببعض الضوابط فى مواقف الاحتجاج هذه. عندما يلتزم الطلاب بالتعبير السلمى عن مواقفهم وعندما لا يجبرون زملاءهم على مقاطعة الدراسة، وعندما يتفاعل أساتذتهم معهم بتحويل الاحتجاج إلى مناسبة أخرى للتعلم، وعندما تحترم الإدارات الجامعية حق الطلاب والأساتذة فى التعبير السلمى عن الرأى حتى ولو كان فيه بعض الشطط اللفظى الذى تمليه ثقافة الشباب، وتلجأ للتفاهم معهم عندما تثور بعض الصعوبات العملية، مثل التضييق على التحرك داخل الجامعة، فقد يقلل ذلك من الضغوط التى قد تأتى من جانب أعداء الحرية الأكاديمية من خارج الجامعة. وهذا أفضل بكثير من تحول الجامعة إلى ساحة حرب، وهو ما يضمن استمرار الجامعة منبرا للتبادل الحر للآراء.