من التعليم إلى التعلم.. التحول الرقمى فى التعليم العالى.. هل ما زال خيارًا؟ - محمد سالم - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 3:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من التعليم إلى التعلم.. التحول الرقمى فى التعليم العالى.. هل ما زال خيارًا؟

نشر فى : الأربعاء 5 يونيو 2024 - 7:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 يونيو 2024 - 7:10 م

 

منذ بداية هذا القرن، وعلى مدى السنوات الماضية أصبح تعبير «التحول الرقمى» يتردد فى القطاعات المختلفة على جميع المستويات، استوعبه البعض وتفهمه وقرر المشاركة فيه فأصاب فى تقديره، والبعض الآخر ردده كنوع من إظهار التحضر ومواكبة التطور. أما على مستوى الحكومات ومجالات الأعمال والصناعة رُصدت الميزانيات واعتُمدت الاستثمارات حيث أصبح «التحول الرقمى» حقيقة واقعة لابد للجميع التعامل معها فلن يكون هناك خيار آخر أو بديل لها على الأقل فى العصر الذى نعيشه. فالعالم اليوم أصبح عالما جديدا له عناصره التى تميزه عما كان عليه منذ عقود قليلة مضت، وله أيضًا مفرداته التى ألزمت الجميع بالتعامل معها. وكان تطور التكنولوجيا من الأسباب الرئيسية لهذا التغير، فبفضل استخدام تقنية الجيل الخامس للاتصالات، أصبحت هناك بنية تحتية تلبى الكثير من متطلبات هذا العالم الجديد، من حيث قدرتها على الاستمرارية، وزيادة سرعة تبادل البيانات والمعلومات، وتحسن الجودة، مع انخفاض تكلفتها.

جاء العالم البريطانى كيفين أشتون فى مطلع عام 1999 ليعلن عن اكتشافه لمفهوم جديد يستفيد من إمكانيات شبكة الإنترنت، وهو إنترنت الأشياء «Internet of Things»، هذا المفهوم اقتنع به الكثيرون واستخدمته العديد من الشركات، إلا أنه لم يزدهر إلا فى السنوات القليلة الماضية مع تحسن البنية التحتية للاتصالات. وما تفعله إنترنت الأشياء ببساطة هو: ربط مجموعة من الأشياء بعضها ببعض، و«الشىء» هنا يعنى جهازًا يتم التعرف عليه من خلال شريحة حواسبية مدمجة داخله، وتسمح إنترنت الأشياء بأن يتم استشعار «الأشياء» و/ أو التحكم فيها عن بُعد، عبر شبكة الإنترنت.

إذن، ما فعله السيد أشتون هو أنه استخدم البنية التحتية للاتصالات لربط الآلات بعضها البعض بعد أن حَوَّلها إلى «أشياء» وأصبح ــ بدون أن نشعر ــ لدينا «أشياء» فى منزلنا، فالتليفون المحمول «شىء«، والتليفزيونات الذكية «شىء»، والطابعة اللاسلكية شىء ثالث. هذه الأشياء تزداد كل يوم بالملايين حتى إن بعض الخبراء يتوقعون أن يصل عددها إلى 75 بليون شيئًا بنهاية عام 2025. ثم جاء الثنائى مارك زوكربرج رئيس شركة «ميتا» ــ ممثلاً لمنصات التواصل الاجتماعى ــ وستيف جوبز ــ أيقونة التليفونات المحمولة ــ ليربطا البشر ببعضهم البعض وليكملا الدائرة على النحو التالى: بنية تحتية، وربط الآلات ببعضها البعض، وربط الإنسان بغيره من البشر والآلات.

إذن، فالعالم اليوم أصبح عالمًا واحدًا، رقمى التكوين، مرتبطا تكنولوجيًا ببعضه البعض ومن هنا أتى مفهوم العولمة، «فإنسانيا» أصبحت الحدود الطبيعية ليس لها معنى، فأى إنسان يستطيع التواصل مع أى إنسان آخر فى أى مكان فى العالم يتحدث معه، ويتبادل الأفكار والمعلومات بل ويراه. وأصبحت المعلومات متوافرة فى أى وقت على مدار الساعة لمن يريدها. ثم جاء التطور الحالى لتقنية الذكاء الاصطناعى ليعلن بداية عصره الحقيقى (بعد أكثر من 68 عامًا على ظهوره) ليتسبب فى فقدان الملايين لوظائفهم، وأن يكتسب ملايين آخرين ــ بسببه أيضا ــ وظائف جديدة تناسب هذا العصر.

وأصبح ارتباط البشر بهذا العالم حقيقة واقعة ومُلزمة فى نفس الوقت، فلا يستطيع أحد أن يدعى بأنه قادر على العيش خارجه، أو العمل بمعزل عنه، ومن لم يفهمه أو يرتبط به فليس له مكان فيه ولن يكون جزءًا منه، بل وقد ينال عقابه ــ فى بعض الأحيان ــ مثل ما حدث مع شركتى «كوداك» و«توماس كوك» العملاقتين اللتين أعلنتا إفلاسهما فى العقد الماضى.

• • •

أما عن التعليم العالى ــ وهو محور هذا المقال ــ فهو جزء لا يتجزأ من هذا العالم الجديد الذى نعيشه فمخرجات هذا القطاع هى مدخلات ذلك العالم، فهى التى تغذى الاقتصاد والصناعة ومجال الأعمال بالموارد البشرية اللازمة، وبالتالى كان تأثير ما يحدث فى العالم مباشرًا على هذا القطاع.

ما يحدث حاليًا أن التعليم يعتمد   ــ فى الأساس ــ على الأستاذ الذى يشرح المادة العلمية وجها لوجه للطلاب، وعلى الطالب استيعابها، وإن احتاج لمعاونة يرجع لنفس أستاذ المادة أو أىِّ من معاونيه، ثم عنده بعد ذلك المراجع اللازمة من الكتب أو المذكرات التى يجب عليه «حفظها» ليكون مستعدًا بعد ذلك لاجتياز الاختبارات، التى غالبا ما تكون عملية استرجاع من الذاكرة لما حفظه ليفرغه فى ورقة الإجابة. هذه النوعية من الخريجين هى بالضبط ما لا تريده شركات الأعمال أو الصناعة حاليًا. فما تعلمه هذا الخريج ويعرفه هو وجميع زملائه فى جميع الكليات الجامعية معظمه يمكن الحصول عليه بسهولة عن طريق تطبيق جوجل الحالى أو التطبيقات والنماذج الحالية للذكاء الاصطناعى مثل تطبيق «Gemini» لشركة جوجل، وأحدث ما أعلنت عنه شركة «Open AI» فى منتصف شهر مايو الماضى وهو نموذج «GPT 4o».

فمؤهلات الخريج الجامعى حاليًا لابد وأن تتوافق مع متطلبات سوق العمل وليس العكس، فما تتوقعه سوق العمل حاليًا هو خريج يستطيع أن يفكر ويتعلم منفردًا ويحلل ويحل المشكلات. وأن يكون ملما بتقنيات وأساليب اكتساب المعرفة وإدارتها، وأن يتحلى بميزة الإبداع والابتكار وريادة الأعمال، ومهارة طرق تحليل المشكلات وحلها، وبالطبع المهارات الرقمية والتقنية والشخصية، وأن يكون قادرًا على التعلم مدى الحياة بشكل مستقل، وأخيرًا القدرة على العمل الجماعى والتكيف مع الثقافات الأخرى، فَفِرق العمل فى الشركات أصبحت تتكون من أفراد من أماكن وبلاد مختلفة، ومن الطبيعى الآن أن يضم نفس الاجتماع فى نفس الوقت جزءًا من فريق العمل المتواجد فى مقر الشركة وجزءًا آخر يكون موجودًا فى المنزل فى بلاد وقارات أخرى، أما الجزء الثالث فيحضر هذا الاجتماع فى حديقة عامة أو حتى على شاطئ البحر.

• • •

بناء على ما سبق، أصبحت هناك عناصر فى منظومة التعليم لابد وأن تتغير وأولها وأهمها أن يحدث تحوّل «رقمى» سواء فى منظومة العمل أو فى المحتوى العلمى الذى يدرس، هذا من ناحية، من ناحية أخرى فنوعية الخريج المطلوبة فى سوق العمل (المحلى أو العالمى) ومؤهلاته التى يجب أن يتحلى بها، تؤكد على حتمية «مراجعة» أساليب وطرق التدريس و«تعديلها»، فالحصول على المعلومات لم يصبح قاصرًا على الجامعات أو المعاهد التعليمية، بل أصبح متاحًا خارج هذه المنظومة، ويرجع الفضل فى ذلك إلى التكنولوجيا التى أغدقت علينا العديد من التطبيقات التى توفر هذه المعلومات، وأهمها وأكثرها انتشارًا تطبيق «جوجل» الشهير الذى دائما ما نجد عنده الإجابة على أى سؤال لنا فى أى مجال، وأصبح لدى العالم كله وسائل أخرى للحصول على المعلومات بطرق سهلة ومباشرة على مدار الساعة.

هذه المؤهلات والمهارات المطلوبة لابد وأن يكون للطالب نفسه ــ وليس أستاذه ــ الدور الرئيسى فى اكتسابها وتطويرها. ومن هنا جاءت كلمة «التعلم» وليس «التعليم» هو ما يحتاجه العالم الآن. فالآن يقع التعليم فى الأساس وبنسبة تصل إلى 90% على عاتق الأستاذ الجامعى ومن يعاونه من هيئة التدريس، وهذه الطريقة كما ذكرنا يكون منتجَها خريج يعرف أو (يحفظ فى أفضل الأحوال) ما درسه. ولكن ما نقصده بالتعلم هنا أن يتطور دور الطالب فى العملية التعليمية إلى حوالى 50%، ويتساوى بعد ذلك دورى التكنولوجيا بنسبة تصل إلى 25%، والأهم من هذا وذاك أن يظل الأستاذ والمعلم له دور فى المنظومة التعليمية ولكن سوف ينخفض إلى نسبة 25%، وأن يصبح دوره «موجهًا» أكثر من كونه «معلمًا»، وبالتالى فعليه أولاً أن يقتنع بالتغيير، وأن يكون قادرًا على تطوير البرامج التعليمية عبر الإنترنت أو تعلمها، علاوة على تواصله الدائم مع ما يحدث فى الخارج فى مجال الأعمال والصناعة، مع قدرته على استخدام أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتحديث المستمر للمعرفة وطرق وأساليب التعليم التكنولوجى الجديد، وأخيرًا تقبُل وفهم وتقدير الجيل الحالى من الطلبة.

ولاستكمال المنظومة الجديدة «للتعلم» والتوافق مع البيئة الحاضنة لهذه المنظومة، فلابد من إضافة مواد متخصصة جديدة لابد وأن تدرس على المستوى الأفقى فى جميع الكليات الجامعية وهى: العلوم الإنسانية والاجتماعية، والثقافات البينية، كما يجب أيضًا غرس عادات ثقافية وأخلاقية فى نفوس الطلبة مثل: نقل المعرفة الإنسانية، العيش مع الآخرين، وقبول الحق فى الاختلاف. وأخيرا وليس آخرا هناك مبادئ وأساسيات يجب أن نحافظ عليها وللأبد وهى أولاً الحياة الجامعية والعلاقات الاجتماعية بين عناصرها، وثانيًا ــ ومهما تغلغلت التكنولوجيا الرقمية ــ أن يظل دور الأستاذ الجامعى ــ ناقل المعرفة ــ دورًا أساسيًا بل ومحوريًا فى المنظومة التعليمية، وأخيرًا وليس آخرًا أن نعمل ما فى وسعنا لتظل المكتبات الجامعية بما فيها من كتب ووثائق مركزًا ثقافيًا لكل من فى هذه المنظومة.

محمد سالم وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الأسبق
التعليقات