«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (النحل، 90)، فى هذه الآية العظيمة يبدأ الله أمره لنا بالعدل، وكأنه الحد الأدنى لعلاقة الإنسان بالآخرين، ويذكر فى عقبه الإحسان وهو تعجيل الخير وهى منزلة أعظم ولا شك. فالعدل يعنى القسط والموازنة وعليه «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» لكن للإحسان نصيب «ولئن صبرتم لهو خير للصابرين» فمن العدل قوله تعالى: «وجزاء سيئة سيئة مثلها» ولكن من الإحسان «فمن عفا وأصلح فأجره على الله». ومن العدل «والجروح قصاص» ومن الإحسان «فمن تصدق به فهو كفارة له».
ولذى القربى نصيبهم لأنهم يقعون فى دائرة مسئوليتنا المباشرة أكثر من هؤلاء الذين باعد بيننا وبينهم المكان أو الزمان أو النسب. فما دون العدل ظلم وجور وكذب وخيانة وفحشاء ومنكر وبغى، وكل هذا ليس من الإسلام، أما ما فوق العدل من إحسان وكرم وتفضل وعفو وصفح وبر بالآخرين فهو من كمال الإحسان والإيمان الذى وقر فى القلب وصدقه العمل.
وعليه حين قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم الكفار فقد قاتلهم بالعدل، وحين عفا عنهم فى فتح مكة فقد عفا عنهم بالإحسان وما كان ليظلم أو يبغى. وكذلك حين رفض ابن الخطاب أن يعطى لبعض ضعاف النفوس من الأعراب سهم المؤلفة قلوبهم فكان يتصرف بالعدل، وحين أمر لليهودى العجوز من بيت المال، فاختار أن يكيفه على أنه من «العدل» وليس من العطف أو الإحسان لأنه ليس من العدل أن يأخذ منه الجزية فى شبابه ويحرمه فى شيخوخته. وكذا حين رفض أن يصلى فى كنيسة القيامة حتى لا يتخذها المسلمون من بعده مسجدا. وحين احترم المسلمون حقوق الآخرين فى بناء دور العبادة، فكان من العدل لأنه لا إكراه فى الدين، وحين تبادلوا معهم التهانى فى أعيادهم فكان من الإحسان وهذا هو جوهر قول الحق سبحانه «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (الممتحنة، 8).
فالله يقول إن الذين يعيشون معنا ولم يقتلونا أو يخرجونا من ديارنا لهم أن نتعامل معهم بالبر (وهو من مراتب الإحسان) وكأننا نعجل لهم الخير مثلما هو حالنا مع بر الوالدين، وإن لم نكن بهذا القدر من الإحسان، فعلى الأقل فلنكن عادلين ومن العدل أن يكون لهم حقوق كما لنا حقوق غير منقوصة.
وبما أننا فى مناسبة محاكمة الرئيس السابق ونجليه ورموز حكمه، هل نغلب العدل أم الإحسان؟ الناس منقسمون منهم من اختار أن يعتذر للرئيس وأن يقبل أعذار وحجج المتهمين ومنهم من قرر أن يصب عليهم اللعنات ويصدر عليهم الأحكام حتى قبل المحاكمة، وبينهما عشرات المواقف المحتملة. ولكل الحق فى أن يختار ما يراه منطقيا.
الإجابة شخصية، والرأى يكونه كل إنسان فى حدود ما يعلم وما يريد. ولكن قبل أن نتحدث عن العدل أو الإحسان نريد أن نعرف الحقيقة أولا. ولتكن الحقيقة هى مدخلنا.