المفاضلة بين الدعم النقدى والدعم العينى هى مسألة معقّدة ومقيّدة بسياق اقتصادى واجتماعى وسياسى شديد التداخل. وإذا كان لأحد البديلين ميزة مطلقة على البديل الآخر، لما بقى السؤال يتردد فى مختلف المحافل والأوراق البحثية، عن أنسب أشكال الدعم.
ولأن الحوار الوطنى فى مصر يعتزم طرح تلك المسألة للبحث على مائدة الخبراء والمسئولين وأصحاب المصلحة، فلا بأس أن نكرر بعضا مما ذكرناه فى معرض تناول تلك القضية على مختلف منصات ووسائل التواصل والنشر. على أن يظل الكثير من التفاصيل متاحا للقرّاء الراغبين فى الاستزادة والتعمّق من المصادر آنفة الإشارة.
• • •
فى الحديث عن التحول من الدعم العينى إلى الدعم النقدى، هناك عدد من الاعتبارات التى يجب أن يُنظر إليها؛ أولا: يتعيّن علينا إعادة تعريف الدعم، حتى يمكن أن نحدد القدر من التكاليف الذى يمكن أن يوصف بأنه دعم، وذلك القدر الذى يتوزع بين هدر وفاقد وسرقات وفساد وتسرّب خارج منظومة الدعم إلى غير مستحقيه.. يرتبط بهذه النقطة مسألة أخرى تؤثر على هيكل التكاليف وتجعل تعريف الدعم مسألة صعبة. تحرير أسعار بعض المنتجات والخدمات، وترك بعضها ليتحدد وفقا لقوى السوق العالمية تعترضه العديد من العقبات، لكن أبرزها على الإطلاق هو ضرورة تحرير سوق السلعة أو الخدمة قبل تحرير أسعارها. ولأن غالبية السلع والخدمات التى تتحدث الحكومة عن تحرير أسعارها هى محتكرة من قبل أذرع حكومية للدولة، فسوف تظل الأسعار (المحلية) مشوّهة بالقدر الذى يتحكم من خلاله المحتكر فى تحديد الأسعار للمستهلك، وبالقدر الذى تغيب فيه المنافسة عن الأسواق، ويختفى حافز تحسين كفاءة الإنتاج والتوزيع وأحيانا الربح. باختصار، إذا أردنا تحرير الأسعار فلا بد من تحرير الأسواق.
ثانيا: يجب بناء نماذج قياسية تساعدنا على تقييم كفاءة التحول إلى الدعم النقدى. بشكل نظرى، الدعم النقدى هو الأكفأ والأسرع وصولا إلى مستحقيه، لكن فى التطبيق العملى هناك عدد من الشروط التى يتوقف عليها تحقق كفاءة الدعم النقدى. أهم تلك الشروط هو أخذ معدلات التضخم فى الاعتبار. من ناحية، يتسبب التوسّع فى التحوّل إلى الدعم النقدى فى خلق موجة تضخمية جديدة، ناتجة عن زيادة المعروض النقدى فى الأسواق؛ فوزارة المالية عادة لا تلجأ إلى إعادة تخصيص المصروفات لصالح الدعم، على سبيل المثال، لن تلجأ إلى تخفيض الاستثمار الحكومى بنسبة 30% وتوجيه تلك النسبة لمستحقى الدعم. ونظرا لأن الحكومة لا تملك مساحة مالية كبيرة بالموازنة العامة، نظرا لاستهلاك خدمة الدين العام للجانب الأكبر من استخدامات تلك الموازنة (أكثر من 60%) فغالبا ما سيتم تمويل الدعم النقدى عبر سحب من البنك المركزى (على المكشوف) أو عبر إصدار أدوات دين قصيرة الأجل، سيمولها القطاع المصرفى أيضا، بما يزيد من الضغط على معدلات التضخم. كذلك ومن ناحية أخرى، يجب أن يؤخذ فى الاعتبار ارتفاع معدلات التضخم العام فى مصر عن رقمين فى الأجل الطويل (أى أعلى من 10%). وبعيدا عن المستهدف غير الواقعى لمعدلات التضخم، فإن تلك المعدلات تدور اليوم حول 27% سنويا، مما يعنى أن التحوّل إلى الدعم النقدى ما لم يرتبط بآلية لتعويض مستحقى الدعم عن معدلات التضخم السنوية، فإن هذا الدعم سيتآكل بشكل سريع حتى يصبح غير ذى قيمة.
أما إذا انتبهت الحكومة إلى ذلك، وقامت بوضع آلية للتعويض، فإن نسبة الدعم إلى إجمالى المصروفات سوف تزداد بوتيرة متسارعة، أشك أن الحكومة ستكون قادرة على مواكبتها بالهيكل الحالى للموارد. فالمتأمل فى الدعم عبر السنوات يلاحظ أنه تراجع من كونه يمثّل 25% من حجم الموازنة العامة طوال عقود، إلى مستوى لا يزيد على 11,5% من استخدامات موازنة 2024 /2025 شاملا الامتيازات الاجتماعية كلها، ومستحقات أصحاب التأمينات التى تردها المالية إليهم، نتيجة لأخطاء اكتوارية قديمة ومتراكمة ولأسباب أخرى يضيق بها المقال!.. وإذا أرادت الحكومة أن تطارد التضخم فى قيمة الدعم النقدى، فإن نسبة الدعم لابد أن تزيد بشكل مستمر. واهم إذن من يتصوّر أن الدعم النقدى يعنى حصر قيمة الدعم العينى فى تاريخ، ثم تحويل القيمة إلى نقود، ثم صرف النقود دون زيادة طيلة سنوات، خاصة مع سرعة تراجع قيمة العملة الوطنية. وإذا وقع هذا، فهو مرادف لإلغاء الدعم أو تحويله إلى شئ رمزي، لا يختلف فى أثره عن معاشات تقدّمها النقابات المهنية تبلغ قيمة بعضها 50 جنيها شهريا، يعنى ما يزيد قليلا على دولار واحد!!
ثالثا، قبل اتخاذ قرار بالتحوّل إلى الدعم النقدي، يجب أن تعرف ما هو الهدف من الدعم؟ هل الهدف هو تحقيق المساعدة فقط؟ أو المساهمة فى خفض معدلات الفقر؟ أو تحقيق أهداف أكثر تحديدا مثل تحسين وضع الأمن الغذائى (بالنسبة للدعم الموجّه إلى عدد من المنتجات الغذائية الهامة)؟
الأمن الغذائى هو عنصر هام من عناصر الأمن القومى لأى بلد، والدول التى تدعم المنتجات الغذائية منتشرة حول العالم. هناك صور للدعم العينى متمثّل فى كوبونات الغذاء فى الولايات المتحدة، بخلاف دعم منتجات زراعية كالحبوب بشكل عام دون استهداف فئة من المستهلكين، وذلك بتوجيه أشكال مختلفة من الدعم لمنتجى تلك السلعة، وهذا موجود أيضا فى منتجات الوقود التى يتم دعم منتجيها مع مراقبة تأثير ذلك على السعر للمستهلك. وهناك عدد من التجارب الآسيوية لدعم المنتج الغذائى الأهم فى أندونيسيا وماليزيا، وأشهرها برنامج «راسكين» الذى يقدم الأرز المدعّم للفقراء ومن هم بالقرب من خط الفقر فى أندونيسيا. وتمتلك الهند شبكة كبيرة من المنافذ التى تقدّم منتجات غذائية مدعّمة للمواطنين.
فإذا كان الهدف من تقديم الدعم هو تحقيق الأمن الغذائى، فربما كان التحوّل الكامل إلى الدعم النقدى غير فعّال. تخيّل معى وجبات الأطفال فى المدارس لو استبدلات بنقود ينفقها الأطفال على ألعاب إلكترونية، فهل يحسّن هذا من صحة الطفل ويقلل من احتياجه للرعاية الصحية؟! أو تخيّل وجبات العمال فى المصانع ذات التعرّض الكبير للتلوّث لو استبدلت بنقود، فهل يحقق هذا المستهدف من توافر الحد الأدنى من الوقاية ضد الأمراض وتحسين إنتاجية العامل فى الأجل الطويل؟!
صحيح أن النقود فى أيدى الفقراء أو المحتاجين مطلوبة دائما، وتلبّى احتياجاتهم التى لا يحق لأحد أن يفرض وصاية عليها أو يحدد لهم أولويات إنفاقهم.. لكن الدولة أيضا يجب أن يكون لها أولويات فيما يتعلق بالأمن الغذائى وتحديد مستهدفاته، وفيما ينعكس إيجابا على الصحة العامة للمواطنين، ويقلل من فاتورة الرعية الصحية (بفرض أننا نتبع منهجا شديد البرجماتية يخلو من الاعتبارات الإنسانية). هنا يكون استمرار الدعم العينى ــ ولو جزئيا ــ مفيدا وضروريا.
• • •
كذلك يمكن أن تكون هناك خطوة انتقالية من الدعم العينى إلى النقدى، كما يحدث فى التعامل مع نقاط الغذاء ونقاط الخبز على بطاقات السلع التموينية. هذه النقاط يمكن أن تكون قابلة للتحويل إلى نقود فى حدود معينة. بمعنى أن النقاط السلعية يمكن لحاملها شراء سلع معينة من منافذ محددة، ويمكن استبدال جانب من تلك النقاط بنقود عبر ماكينات الصرّاف الآلى. تلك آلية ممكنة وقابلة للتطبيق فى بطاقات التموين والخبز فى مصر، وأعرف من واقع عملى السابق مساعدا لوزير التموين والتجارة الداخلية، أنها ميسّرة من الناحية التقنية واللوجستية.
كاتب ومحلل اقتصادى