مع تصاعد موجة الاحتجاجات الاجتماعية تحول الموقف من تجاهل مطالب المحتجين إلى التشويه، إما بالتشكيك فى نزاهة الجهات الداعية للاحتجاج، أو إدانة عدم مراعاة المحتجين للظرف الاقتصادى، وهى اتهامات تخفى فى طياتها انحيازات اقتصادية تمثل السبب الرئيس لتصاعد الاحتجاج.
●●●
بدأ الأطباء الأسبوع الماضى إضرابا جزئيا بسبب عدم الاستجابة لمطالبهم، وهى زيادة نسبة الإنفاق على الصحة فى الموازنة، وإعادة هيكلة الأجور، وتأمين المستشفيات، وقبلها أضرب المضيفون الجويون بمصر للطيران مطالبين بإعادة هيكلة الرواتب وساعات العمل، وشملت الإضرابات لأسباب مماثلة فئات أخرى كالمعلمين، وسائقى النقل العام، وأمناء الشرطة، والإداريين بالجامعات، وغيرهم.
وقد تطورت وسائل التعامل مع هذه الاحتجاجات، فبدأت بالتجاهل، ومرت بتحذير المحتجين من العقاب (كما حدث مع سائقى النقل العام)، ووصلت للتشويه (رئيس أحد الأحزاب أكد أن المحرضين على الاعتصامات «هم الفلول واليسار المتطرف»)، غير أن قوة الحركة الاحتجاجية فرضت أحيانا تفاوضا من موقف متكافئ، الذى أدى للاستجابة لبعض مطالب المحتجين.
ولم تخف دوائر السلطة ارتيابها من الاحتجاجات، فاتهمت جريدة الحرية والعدالة التابعة للحزب الحاكم عناصر الحزب الوطنى وأمن الدولة بالوقوف خلف إضراب المحلة (عدد 22 يوليو)، وتحدث عدد من قيادات الحزب عن كون الإضرابات «مفتعلة لتعطيل مشروع النهضة» (المصرى اليوم 18 سبتمبر)، واعتبر أحد القياديين إضراب الأطباء يقوم على «مطالب غير معقولة» و«يزيد من معاناة المرضى» (بوابة الحرية والعدالة 1 أكتوبر)، وتواترت تصريحات القيادات الإخوانية على مواقع التواصل الاجتماعى مدينة الاعتصامات ومشككة فى نوايا القائمين عليها أو بعضهم.
غير أن معاداة المحتجين واتهامهم بالسعى للتخريب لم تجد مع اتساع دوائر الاحتجاج، واستنادها لمطالبات حقيقية وجادة، واستقلالها عن الصراع الحزبى القائم، والذى يدور حول قضايا بعيدة عن هذا المسار النضالى، بسبب فشل الحركة الاحتجاجية بعد تحويل مطالباتها إلى مشروع سياسى متكامل يعبر عنه حزب أو أكثر، غير أنها ظلت ــ مع ذلك ــ مستعصية على تدخل الأحزاب فى تحديد أولوياتها وتسيير أمورها.
●●●
أمام صعوبة النيل من الاحتجاجات بتشويهها لجأت السلطة (بمفهومها الواسع) لحجة أخرى فى عدم الاستجابة لمطالب المحتجين، تقوم على الاعتراف بعدالة مطالبهم مع المناداة بتأجيلها، حرصا على «الصالح العام» لأن الاقتصاد يمر بمأزق، ولا بد من تضافر لإعادة بنائه، بحيث تتوافر الموارد ثم ينصرف الجهد بعد ذلك لتوزيعها بشكل عادل.
وهذه الحجة تقوم على فرضية حياد الدولة فى الصراع بين مصالح الفئات المجتمعية المتعارضة، وهى فرضية مستحيلة الوجود فى المجتمعات الحديثة التى توجد بها طبقات متباينة المصالح فلا تمتلك أى سلطة إلا الانحياز لبعضها، وإن بدرجات متفاوتة.
والدولة عندنا منحازة تماما لمصالح رجال الأعمال وكبار البيروقراطيين على حساب الطبقات العاملة، وهو انحياز يظهر جليا فى المشروع الانتخابى للرئيس مرسى (والذى وعد قبل جولة الإعادة بمراجعته)، وفى السياسة المتبعة إزاء هذه الاحتجاجات، ففى الوقت الذى يُطلَب فيه من العاملين الصبر بحجة قلة الموارد، لا تزال الدولة تنفق بسخاء على رجال الأعمال، بدعم الطاقة فى المصانع التى تستهلك طاقة كثيفة (جل أصحاب هذه المصانع من محاسيب مبارك الذى حصلوا على تراخيصهم بسبب قربهم من دوائر الحكم)، وفى المنشآت السياحية، ودعم الوقود عالى الجودة، وغيرها من أشكال توجيه الدعم لغير مستحقيه.
كما يمنع الانحياز من اتخاذ السبل اللازمة لحفظ الموارد وزيادتها، سواء بضم الصناديق الخاصة للموازنة العامة، أو بمراقبة تطبيق الحد الأقصى للدخول (الحد الأقصى للأجور يسهل الالتفاف حوله ببنود فى الدخل لا تعتبر ضمن الأجر)، أو بالاستغناء عن جيوش المستشارين بالوزارات والهيئات، أو بالسعى الجاد لمصادرة أموال الفاسدين واستعادة الأموال المهربة، ومصادرة ممتلكات الدولة التى تم تخصيصها بسبل غير مشروعة (مثل هذه الإجراءات تقلق طبقة رجال الأعمال)، أو إعادة هيكلة الضرائب لتكون تصاعدية متناسبة مع شرائح الدخل، أو بسط سيطرة الدولة على شركات القطاع العام، ومنها الشركات والمصانع التى تديرها القوات المسلحة، بحيث تصير أرباحها خادمة للمجتمع لا لفئة بعينها.
●●●
إن استمرار تجاهل الاحتجاجات والالتفاف على مطالبها لن يجدى نفعا، فالمحتجون يستندون إلى مظالم اجتماعية حقيقية، تمس حياتهم بشكل يومى بحيث لا يملكون منها فكاكا، وبالتالى فلن تتلاشى مظاهراتهم كسراب الوعود غير المنفذة، بل سيزيد التجاهل والتلاعب من إصرارهم، والسبيل الوحيد لإنهاء الاحتجاجات من غير الاستجابة لها هو استخدام القوة، وهو خيار مستحيل عقب الثورة، كما ثبت بقيام الثورة أن نجاحه إنما يكون مؤقتا.
والتعامل مع الاحتجاجات بغير عنف يستوجب إيجاد آليات فعالة للتفاوض مع المحتجين، تغنيهم عن اللجوء الدائم للاعتصامات، وتغنى أنصار «عجلة الإنتاج» عن تعطيلها، ومثل هذه الآلية تتفرع عن نقابات مستقلة تمثل مصالح مجموع العاملين فى المؤسسات المختلفة، وهو ما يستوجب المسارعة بإقرار قانون الحريات النقابية، الذى صرح وزير القوى العاملة السابق فى أغسطس 2011 أنه «سيصدر بمرسوم عن المجلس العسكرى خلال أسبوع»، غير أنه ــ بسبب انحياز الدولة الذى يدفعها لوضع القيود أمام العمل النقابى ــ تأجل اصداره، ثم استبدل ــ فى عهد الوزير الحالى ــ باقتراح قانون آخر يضع قيودا مجحفة على العمل النقابى، على نحو يبقى الكفة غير متوازنة بين أرباب الأعمال والعاملين، ولا يبقى أمام العاملين بديلا سوى اللجوء المستمر للتصعيد بالاعتصامات والإضرابات.
●●●
إن مطالبة الطبقات العاملة، التى تعيش نضالا مستمرا من أجل البقاء، بتأجيل مطالباتها الاقتصادية العادلة، بحيث تتحمل هى كلفة إعادة بناء الاقتصاد، بدلا من أن تشارك فى تحملها طبقة رجال الأعمال، التى تأبى التضحية حتى بقسط من الأرباح، يعبر عن انحياز للنظام السياسى متطابق مع انحيازات نظام مبارك.
وإذا كان الفرق الرئيس بين الثورة والتحول الديمقراطى هو أن الأولى لا تكتفى بضبط الإجراءات الديمقراطية الضامنة لوصول أصحاب الأصوات الأعلى فى الانتخابات إلى الحكم وإنما تتجاوز ذلك لتعديل هياكل وانحيازات السلطة الحاكمة، فإن الثورة إن كانت حقيقية ستنجح فى فرض إرادتها، وستغير من بنية النظام الاقتصادى ليصير أكثر انحيازا للغالبية العظمى من العاملين، ولتصير الدولة أكثر استقلالا عن المصالح الضيقة لطبقة رجال الأعمال.