أعدت فى الشهور الماضية تحديد علاقتى مع الوقت. صار عندى علاقة شبه جسدية مع الدقائق فأشعر بستين نقرة فى عقلى طوال النهار على مر الزمن. يستخدم عازفو البيانو جهازا منظما للإيقاع يربطون حركة أصابعهم على البيانو بدقاته. هناك جهاز ينظم دقات القلب لأشخاص تسارعت حركة عضلة قلبهم. يستخدم البعض تطبيقا يحسب عدد خطواتهم على مدى اليوم ليحثهم على الحركة والمشى.
• • •
فى عقلى صوت جهاز البيانو وذبذبات تصدر من علبة رقيقة تنظم القلوب. هو إيقاع رتيب للاثنين أحاول فى ساعات الزحمة أن أربط تنفسى بسرعته وأفرض على شهيقى وزفيرى أن ينتظما. فى عقلى أيضا إشارات جهاز الخطوات يدفعنى طوال الوقت إلى الإسراع وانتزاع الأحداث من كل ما حولى بدل انتظار أن تأتى إلى.
• • •
تتصادم الأجهزة الثلاثة فى داخلى. ذلك الذى يريدنى أن أتحرك أكثر، أن أجرى، أن أقفز من ارتفاع أصادفه فتصل إشارة الخطر إلى جهاز القلب ويأمرنى بالتروى بينما يذكرنى جهاز الموسيقى بالسرعة التى قررناها معا واتفقنا على ألا أتجاوزها.
• • •
فى الشهور الماضية أمسكت الثوانى بين أصابعى وضغطت عليها لتتوقف ففلتت منى. حاولت أن أتفاوض مع ابنى الأكبر الذى رأيته يرمى طفولته جانبا كمن ينزع معطفا ويخرج للقاء الربيع، لقاء مرحلة الشباب واليفع. نظرت إلى وجهى فى المرآة وبدأت أرى أمى وجدتى بشكل أوضح فى ملامحى.
• • •
ثم حدثت معجزة، أو هكذا شعرت بدقائق كنت أسوق فيها سيارتى عند الغروب خارج المدينة متجهة إلى بيت أصدقاء. لا أعرف المدة التى انفصلت خلالها تماما عما حولى وأصبحت جزءا من الغروب. لحظات مرت وأنا هلامية أشعر بنفسى أحلق بين التلال بثوب أرجوانى على خلفية موسيقى وصوت العود من السيارة. عدت إلى عجلة القيادة بعد دقائق وأنا أدرك أنها كانت ما يسمى بتجربة خارج الجسد.
• • •
أظن التعبير الأقرب إلى شعورى يومها هو تجربة خارج الزمن، كأنه توقف وتوقفت معه الأجهزة المتنازعة فى داخلى. دقائق أحسست أنها الأبد، سنوات سأعيشها أرى الغروب وأسمع صوت ابنى يتغير ليأخذ نبرة صوت والدى مع لهجة والده.
• • •
صرت أفكر بالدقائق على أنها سنوات، وأذكر نفسى كثيرا أن الدقائق تنتظرنى وأننى لن أحسب السنوات. هكذا إذا أريد أن أراقب تغيير ملامح من حولى، ومعها أبنى قصصا عن حياتهم فى مخيلتى. قد يشاركوننى تفاصيلهم أو يخفونها وهذا خيارهم. أما القصص، فسوف أحيكها لأصنع منها حبلا يربط بينى وبينهم نعلق عليه معا تفاصيل ملونة. تخيلوا معى حبل غسيل أعلق عليه يوميا قصة، كما كانت الصحف فى بدايتها تعلق لينشف الحبر قبل أن تباع. كثيرا ما نصف عملية ترويج القصص الخاصة بأنها عملية «نشر غسيل». ها أنا أنشر تفاصيل ملونة على حبال أحيكها بدقة كما أحاكت سيدة إغريقية منذ آلاف السنين حبلا أعادت فكه خلال الليل حتى لا تنتهى مهلة فرضها عليها رجل أراد أن يتزوجها حين غاب زوجها فى البحر.
• • •
كل يوم أحيك حبالى وأفردها بينى وبين ناس أحبهم. كل ليلة أعيد فكها حتى أشترى من الزمن يوما إضافيا أعد أننى سأمليه بالقصص. كل يوم أعامل الدقائق على أنها سنوات فقد قررت أن أتمرغ فى يومى ودقائقى وأن أتلقى كمية مهولة من القصص تصلنى دون أن أطلب. أظن أن دقائقى مع الغروب كانت اتفاقا مع الكون: سوف أنظم خطواتى ودقات قلبى على إيقاع الثوانى ولن ندخل فى سباق، بل سوف نكمل المشوار بإيقاع معقول فلا أضجر من البطء ولا ألهث من السرعة. لا أدعى هنا الحكمة ولا أننى أمتلك سر الزمن. أعترف فقط أننى بت واعية أن الدقائق من ذهب فأتخيل ميزانا قديما: فى كفة أضع قصصا يومية وفى الكفة الأخرى أضع نثرات ذهبية. كل قصة تساوى وزنها من ذهب! كل ثانية تحمل قصة وكل قصة هى نثرة ذهب. هكذا أرى علاقتى مع الوقت.
• • •
الباقى من الدقائق سنوات طويلة من الصداقات والنقاشات وبعض الحكمة التى صارت تنظم دقات القلب فلا يفزع من التغيير ولا يتوقع أن ننتقل من مرحلة فى الحياة إلى أخرى دون جهد. الباقى من الدقائق حلم وموسيقى وصوت ابنتى حين تستقبلنى من الشرفة وشعورى أننى سأطير إليها بدل أن أصعد سلالم العمارة. الباقى أيضا أعياد سأحتفل بها ومآتم سأشارك فيها، الباقى لحظات ستجتاحنى فيها عواطف مختلفة تعلمت فى السنة الماضية أن أنظمها مستخدمة آلات تفرض الإيقاع.
• • •
لن أسابق الزمن حتى وهو يحاول أن يدفعنى خارج الطريق. سأقود وقتى برتابة كما نصحنى الكون فى تلك الدقائق الساحرة التى خرجت فيها من مكانى خلف عجلة القيادة عند المغرب وقررت أن دقائقى ستكون سنوات.
كاتبة سورية