من الملفت للنظر أن أعين وألسنة وإعلام من أصدروا قانون التظاهر، ومن يؤيدونه، قد ركزت فى الأيام الماضية على مظاهرات القوى السياسية والحركات الثورية الرافضة له، طبعا بالرفض والاستهجان. وفى الوقت نفسه يتواصل، منذ أكثر من أسبوع اعتصام عمال شركة الحديد والصلب المصرية بحلوان للمطالبة بصرف الأرباح السنوية وتغيير السياسة الإنتاجية للشركة، دون تغطية إعلامية ودون وضعه فى سياق قانون التظاهر الذى ينظم الاعتصامات والإضرابات العمالية والدعوة إليها أيضا بطريقة تحجمها. اعتصام الحديد والصلب هو تحدٍ مباشر لهذا القانون الذى يجرمه هو أيضا.
هذه الظاهرة لها سببان: الأول عدم الرغبة فى كشف اتساع منطق وفلسفة قانون التظاهر لتحجيم كل صيغ العمل العام القاعدى والمقاومة والتنظيم الجماهيريين، وهى فلسفة كشفت نفسها فى مواقف حكام مصر جميعا بلا استثناء منذ فبراير 2011، بداية بمرسوم حظر الإضراب، الذى سارعت به حكومة شرف فور تعيينها، وبالقوى التى توقف قانون الحريات النقابية، مرة تلو المرة، لضرب هذه التنظيمات العمالية المستقلة الحقيقية التى تشق طريقها بنفسها وبناسها فى ساحة السياسة المصرية منذ ما قبل سقوط مبارك. حكام مصر جميعا رأوا فى التحركات العمالية خطرا عليهم وسموها بالفئوية وهاجموها بالمراسيم والاعتقالات والسماح بفصل القيادات النقابية والتنكيل بهم بل ومحاكمتهم عسكريا بسبب الإضراب كما حدث من قبل مع عمال بتروجيت. أما السبب الثانى، فهو أن تصوير قانون التظاهر على أنه مواجهة مع النشطاء، الذين يقال إنهم يخدمون الإخوان سياسيا فى نهاية الأمر، يروج له فى الاتجاه العكسى لفلسفته: وكأنه يجىء دفاعا عن المواطنين العاديين الذين يؤذيهم الشقاق السياسى فى عيشهم اليومى، بينما هو فى الحقيقة موجه أيضا وأساسا وبشكل جوهرى فى مواجهة هؤلاء العاديين عندما يتحركون، وسيتحركون، للمطالبة برفع الأجور أو تحسين الخدمات العامة أو لمواجهة فساد فى الشركات العامة أو فى تواطؤ رقابة الأجهزة الإدارية على أوجه فساد القطاع الخاص أو بناء كوبرى على الطريق السريع بعد وفاة عدد من أبنائهم وهم يعبرونه. الطريقة التى يدار بها النقاش فى موضوع قانون التظاهر تدور عمدا فى فلك تلك القضايا التى تخدم مسارا لا يستجيب لمطالب العدالة الاجتماعية.
يُراد لنا منذ اللحظة الأولى أن نرى فى يناير وحتى فى الغضب الشعبى ضد الإخوان أنها قضايا تتعلق بالسياسة والقوانين والدساتير والحريات وبمؤامرات التمكين والتمكين المضاد ثم الحرب على الإرهاب. وليس فى صلبها الذى يربط بين هذا كله وبين أبنية السلطة والمصالح والقوة التى لا تفصل بين أدوات السيطرة السياسية والأمنية وأدوات الاستغلال والإفقار والاحتكارى على مستوى الاقتصاد. بل بالعكس ينظر للاقتصاد من منظور «عودة الاستقرار»، وكأن النظام القديم، الذى تستمر سلطته وسيادته، كان ناجحا أو كفؤا فى تحقيق تنمية أو خلق وظائف أو مكافحة فقر أو خلق وظائف.
أصول وسلالات الثورة
فى كتابه الصادر الشهر الماضى فى الولايات المتحدة بعنوان «سلالات التمرد قضايا الرأسمالية المعاصرة فى الشرق الأوسط»، يتحدى آدم هنية كبير المحاضرين فى كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (سواس) بجامعة لندن، مقولتين هامتين فى تفسير حدوث الثورات العربية وإمكانات تطورها.
المقولة الأولى هى أن الانتفاضات الجماهيرية الحاشدة التى هزت العالم العربى هى ثورات تدور فى فلك الديمقراطية والديكتاتورية. ويتبع هنية فى نقده لهذا التركيز القاصر على السياسة العليا القانونية الذى ينحصر سقفه فى إعادة إنتاج صورة ما من النموذج الليبرالى السياسى، مركزه فقط الانتخابات والدساتير، منهجا يرى فى تطورات المنطقة كلها وحدة واحدة. يتتبع هنية فى كتابه تفصيليا، وبتقصٍ معلوماتى دءوب، تحولات السياسة الاقتصادية ومعانيها بالنسبة لتغيرات السياسة، بمعنى توازنات القوى فى المجتمع ككل، كمحرك أساسى للثورات العربية وللملايين التى نزلت الشوارع للإطاحة بأنظمتها الحاكمة. وحتى فى هذا لا يتوقف هنية عند السطح. «حتى فى المعالجات الراديكالية للشرق الأوسط، ينزع التحليل لأن يبقى مركزا على المظاهر السطحية للفقر والمؤشرات النسبية لعدم المساواة عوضا مع الاشتباك مع الرأسمالية كنظام كلى يخرق كل مظاهر الحياة اليومية. هذا ضعف مركزى فى فهم المنطقة. فالتوزيع غير العادل للثروة ليس نتاجا قليل الحظ لسياسة اقتصادية سيئة أو مؤامرة من النخب لكنه المسلمة الضرورية للأسواق الرأسمالية ذاتها»، كما يقول هنية فى كتابه المهم.
يشرِّح هنية فى تحليله لأولوية العناصر الاقتصادية والاجتماعية كمسبب للثورات فى المنطقة، بنى الاستبداد فى علاقتها بتطور الرأسمالية فى الدول التى حدثت فى هذه الانتفاضات وتلك التى لم تحدث فيها وعلى رأسها دول الخليج، وكيف عملت على مدى سنوات لإعادة صياغة اقتصاداتها بشكل جذرى فى اتجاه أوسع ارتباط بالرأسمالية العالمية عبر سياسات ليبرالية جديدة خلقت قوى جديدة فى الحكم وقوى مضادة لها أيضا. يرسم هنية خريطة هذا التحول الليبرالى الجديد من خلال تتبع سياسات الخصخصة وتحرير أسواق العمل ومشروعات الشراكة بين القطاعين العام والخاص لخصخصة المرافق العامة وتحريرالتجارة أمام الشركات الدولية الكبرى والتصاعد الهائل للاقتصاد المالى وسلطته فى الاقتصاد والسياسة. «بكل المعانى، فإن العقود الثلاثة الماضية شهدت تآكلا متواصلا فى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كنتيجة مباشرة للسياسات الليبرالية الجديدة. وأسوأ من تم ضربهم هم الشباب خصوصا الشابات الصغيرات الذين حكم عليهم بمستقبل من البطالة والعمل قليل الأجر والاستبعاد الاجتماعي». مثال على هذا فى مصر ما يشير إليه الاقتصادى الكبير د. محمود عبدالفضيل فى دراسته المهمة «رأسمالية المحاسيب» بخصوص أحزمة الفقر والبطالة والعشوائيات التى تتقاطع معا لتضم ملايين المصريين أغلبهم من الشباب بسبب توجهات وفساد السياسة الاقتصادية فى عهد مبارك.
ثانيا، يدمر هنية بتحليله الرصين تلك المقولة التى يعاد ترويجها الآن: «لم يكن ما حدث فى مصر رأسمالية ولا اشتراكية»، وكأن المشكلة هى فى فساد الحكام أو فى قلة كفاءتهم فقط. (لاحظ هنا أن هذه كانت فكرة محورية دفع بها جمال مبارك ومجموعته لدفع سياسات الليبرالية الجديدة التى حولت ثروة البلاد لقلة خلقت تحالفا سياسيا اجتماعيا تتصدر مصالحه أجندة العمل العام. قيل وقتها إن مجموعته أكثر كفاءة وأقل فسادا من قطط الحزب السمان الذين تسببوا فى فشل سياسات التكيف الهيكلى والخصخصة منذ أوائل التسعينيات). ما حدث فى المنطقة العربية وأنتج هذا الحراك السياسى الاقتصادى هو التطور الرأسمالى الذى مرت به أبنية السلطة والمجتمع. ويلاحظ هنية هنا الوضعية الخاصة للخليج الذى تبقى أنظمته صاحبة مصلحة مباشرة فى إعادة إنتاج نفس السياسات وفى تعويق أية بدائل تتجاوز مسلماتها الفاشلة.
أبدا لن تكون كما كانت
بالأمس، ولمدة يومين، أطلقت فعاليات مؤتمر الاستثمار الخليجى فى مصر، بالتعاون مع الإمارات، والذى تعول عليه حكومة 3 يوليو لجذب استثمارات عربية. وعندما تطالع جدول أعمال المؤتمر وأسماء المتحدثين تصدمك هذه الحقيقة الجافة: وكأن شيئا لم يتغير. تصلح هذه الأسماء وهذه الموضوعات، اكثر من ثمانى جلسات مغلقة على الصحفيين، وكأن شئونا سرية تناقش فيها (علما بأنها لا تشمل مفاوضات مباشرة على عقود مثلا)، لأن تكون قد شاهدتها فى مؤتمرات الإيكونوميست أو اليورومونى التى كانت سمة أساسية للعقد الأخير من حكم مبارك. نفس الوجوه والأهم: نفس التوجه ونفس المصالح ونفس السياسات.
وإذا كانت هذه السياسات الاقتصادية التى ستستمر كما هى ليست فى الواجهة اليوم فإنها تظل المفتاح للمستقبل بضيق أفقها ومصالحها وفشلها السابق، والمتوقع واجتراؤها على الاستقلال الوطنى ومعاداتها المباشرة لمصالح أغلبية العاديين. يقول آدم هنية فى كتابه: «ليس من الواضح إلام ستؤول الثورات العربية. لكن المؤكد بالرغم من هذا المنطقة لن تكون أبدا على ما كانت عليه».