سيكون على البرلمان الذى ستعقد أولى جلساته بعد أيام أن يختار بين كونه أداة فى يد الأطراف الموجودة فى السلطة يعطلون بها مسار الثورة، أو أداة فى يد الثورة تستكمل بها أهدافها، وسيكون عليه أن يتخذ هذا القرار ــ بأدائه وقراراته ــ منذ الجلسة الأولى.
والاختيار بين أصحاب السلطة والثوار لا مناص منه، إذ ثمة تناقض واضح بين مصالح الطرفين، فأما أصحاب السلطة فغايتهم الحفاظ على امتيازاتهم الاقتصادية (أراضى الدولة، المعونة العسكرية، المؤسسة الاقتصادية غير الخاضعة للأجهزة الرقابية)، واستمرار امتلاكهم السيادة بحيث يتمكنون دون الشعب ونوابه من القرارات الاستراتيجية (السلم والحرب، العلاقات الدولية، أسس النظام الاقتصادى والاجتماعى، إدارة موارد الدولة وثرواتها)، والحماية من المحاسبة على الجرائم التى ارتكبوها بغية الحفاظ على هذه المصالح (المخالفات المادية والإدارية، أو جرائم قتل المتظاهرين المستمرة منذ شهور).
والحفاظ على هذه المصالح يتطلب التمسك بالسلطة، مع إمكان التخلى عن الإدارة لصالح الجهات المنتخبة، وهو ما يعنى أن أصحاب الشرعية الديمقراطية المنتخبين سيظلون عند ممارستهم مهام الحكم أسرى للضوابط التى يضعها العسكر، وستبقى السيادة ــ فى التحليل الأخير ــ لغير الشعب.
وأما الثورة فمقصدها الرئيسى استعادة الوطن لأهله، لتكون السيادة للشعب، ويكون القرار السياسى معبرا عن إرادة وهوية ومصلحة الجماعة الوطنية المصرية، حافظا لكرامة أبناء الوطن ومحققا للعدالة الاجتماعية، وكلها مقاصد لا يمكن أن تتحقق طالما بقيت السيادة بعيدة عن الجهات المنتخبة.
وهذا التضاد بين المصالح سيفرض على البرلمان الانحياز لأحد الأطراف، فأما الانحياز للعسكر فمعناه القبول بالسيناريو الذى يطرحونه من استبقاء السلطة معهم لحين انتخاب رئيس، وبقائهم فى الحكم وقت كتابة الدستور، والقبول بالتفاوض حول وضعهم بعد المرحلة الانتقالية سواء ما يتعلق بتحصينهم ضد الملاحقة القضائية على ما ارتكبوه فى المرحلة الانتقالية، أو القبول بإخراج المؤسسة العسكرية عن نطاق سيادة الشعب فى الدستور الجديد أو فى الممارسات الواقعية كاستمرار حصتهم من تعيينات المحافظين والوزراء وتمكينهم من بعض مؤسسات الدولة وغير ذلك.
وثمة مؤشرات مقلقة فى هذا الإطار، منها ما نقل عن المتحدث الرسمى للإخوان من القبول بتحصين العسكر ضد الملاحقة القضائية، والقبول ببقاء وضعهم الدستورى على ما هو عليه، وما صدر عن المجلس الاستشارى من القبول بوضع الدستور قبل انتخابات الرئاسة، وكذا وثيقة السلمى التى صدرت قبلا عن حكومة شرف المقالة.
والقبول بهذا الوضع يضع أصحاب الأغلبية البرلمانية فى موقف شديد الشبه بكل الأحزاب التى «حكمت» تركيا منذ سنة 1982 وحتى سنة 2002، فمنذ الانقلاب العسكرى سنة 1980 صار العسكر فى تركيا أصحاب السيادة، وصارت مهمة الحكومات المنتخبة مقصورة على الإدارة، وبتعبير مصطفى شنتوب ــ عضو البرلمان التركى ــ فإن (الأتراك انتخبوا من تصوروا امتلاكهم قوة مواجهة العسكر والبيروقراطية غير المنتخبة، بيد أنهم مع وصولهم للحكم وضعوا أيديهم فى أيدى المؤسسة) ففشلوا فى الإنجاز وخسروا تأييد الشعب.
وأما خيار الانحياز للثورة فمعناه أن يتبنى البرلمان مطالب الميادين العادلة ويعمل على تحقيقها، وأولها: بحث تسلم السلطة من العسكر من غير القبول بتنازلات، ويكون ذلك إما بتسليمها كاملة لرئيس مجلس الشعب ليجرى انتخابات رئاسية خلال ستين يوما، أو بإعلان فتح باب الترشح فور انتهاء انتخابات مجلس الشورى، مع انتزاع كل الصلاحيات من المجلس العسكرى لصالح حكومة منتخبة بإعلان دستورى مكمل إلى ذلك الحين، وثانيها: فتح تحقيقات جادة مع قتلة الشهداء من العسكر والشرطة (إذ بعد مرور عام من ثورة قتل فيها للآن أكثر من ألفى شخص لم يصدر سوى حكم واحد بالإعدام بحق أحد الضباط ولم ينفذ)، وثالثها: طمأنة المصريين بدستور توافقى، يحمى سيادة الشعب على مؤسساته الدستورية كافة، المدنى منها والعسكرى، ورابعها: اتخاذ خطوات جادة وعاجلة لتفكيك منظومة القمع التى قامت عليها الأنظمة السياسية المتلاحقة وقبلها الأمن والإعلام، وخامسها: اتخاذ موقف واضح ومعلن يؤيد مظاهرات يوم 25 يناير ويعلن تضامنه مع أهدافها، وهى لا تخرج عما سبق من نقاط فى هذه الفقرة.
لو فعل المجلس ذلك، فإنه سيكون قوة دفع كبيرة للثورة كونه يمكنها من الحكم لتبدأ فى تنفيذ أجندتها وتحقيق أهدافها، ولو لم يفعل فسيكون مصيره كمصير الأحزاب التركية التى حكمت قبل العدالة والتنمية، من قِصَر العمر (بين سنتى 1989 و2002 تشكلت فى تركيا 12 حكومة)، والفشل (خلال الفترة ذاتها شهدت تركيا ثلاث أزمات اقتصادية كبيرة فى أعوام 1994 و1999 و2001)، كما أنه لن يحمى النظام من الانهيار وإنما سينهار معه، وقد أظهرت استطلاعات الرأى انهيارا كاملا لثقة الناخبين الأتراك فى أحزابهم قبيل انتخابات 2002، وقد ظهر ذلك بوضوح فى الانتخابات التى شهدت صعود قوى كلها كان جديدا على الساحة، حتى أن بعض الكتاب اعتبر ذلك مقدمة لما سموه بالثورة الصامتة فى تركيا، والأمر لا يختلف كثيرا فى مصر التى تشير استطلاعات الرأى إلى أن ثقة الناس فى الأحزاب فيها تتراجع.
اللافت فى تركيا أن حزب العدالة والتنمية ــ الموجود فى الحكم منذ سنة 2002 ــ لايزال مصرا على أنه حزب معارض، لأنه يواجه البيروقراطية والعسكر الأتراك ويدفعهم إلى خارج حلبة السياسة، وهذا الموقف من الدولة العميقة هو أحد أهم أسباب استمرار تأييد الأتراك للحزب، الذى يرونه معاديا لبنية الدولة القائمة ساعيا بجد لتفكيكها.
إن قضية الثورة الأولى هى السلطة، فبدونها لا تكون ثورة ولا تتمكن من تنفيذ أجندتها وتحقيق أهدافها، والثورة المصرية ــ لغياب القائد ــ لم تتمكن بعد من السلطة التى تسلمها العسكر عقب خلع مبارك، وهذا البرلمان المنتخب يمكنه أن يملأ هذا الفراغ القيادى، وأن يصل بالثورة إلى السلطة لو انحاز للأولى، كما يمكن أن يكون سببا فى إراقة المزيد من الدماء وإهدار المزيد من الوقت لو قرر الانحياز للثانية، والقراءة فى تجارب الثورات تخبرنا أنها لا تنتهى بالضرورة بانتخاب المجالس التشريعية، وأن هذه المجالس إن غلبت عليها القوى الإصلاحية لا الثورية يكون مصيرها كمصير النظام، ولنا فى الثورة الفرنسية عبرة ومثل.