هذا مقال معلوماتى فى المقام الأول، بل هو محاولة لوضع قضية «الطبقة الوسطى» فى إطارها المصرى، حيث يختلط على البعض الدور المهم الذى قامت به الطبقة الوسطى فى المجتمعات الغربية بل والكثير من النمور الآسيوية وأوروبا الشرقية فى دعم قضايا النهضة هناك مع الدور السلبى الذى قامت به هذه الطبقة فى مرحلة ما بعد الثورة فى مصر.
ورغما عن أن الحديث عن الطبقة الوسطى فلسفيا يعود إلى أرسطو (القرن الرابع قبل الميلاد) الذى حملها مسئولية الحفاظ على التوازن فى المجتمع، فإن المعنى المعاصر لها جاء مع الثورة التجارية التى ظهرت فى أوروبا فى بدايات عصر النهضة (القرن السادس عشر). ويقول لنا التاريخ إن الطبقة الوسطى جاءت كثالث طبقتين أساسيتين، هما أولا الطبقة الأرستقراطية التى تجمع بين الثروة والسلطة وكان يلتحق بها بيروقراطية الدولة المدنية والأمنية، وثانيا كانت هناك طبقة العوام من الفلاحين والعبيد والتى لم تكن تملك سوى العمل مقابل الأجر.. ويطلق على الطبقة الأرستقراطية من أعدائها لقب «الإقطاعيين». ورغما عن أن الفروق السياسية والاقتصادية بين الطبقتين كانت بارزة فإن الأهم كان وجود سد منيع بين الطبقتين، وهو ندرة إمكانية الحراك الاجتماعى أى الانتقال من طبقة لأخرى.
إلى أن حدث تحول مذهل مع عصر الكشوف الجغرافية والحاجة لفئة جديدة من الناس يقومون بوظيفة المغامرة بالذهاب إلى البلدان البعيدة للتجارة فى أوائل القرن السادس عشر. ومع نمو هؤلاء بدأ التحول من الإنتاج للاستهلاك إلى الإنتاج من أجل التجارة. وهذا هو الفضل الأكبر لطبقة التجار الناشئة لأنها مهدت إلى الاقتصاد الرأسمالى بتحويلها الإنتاج من أداة نحو الاستهلاك إلى عملية تهدف إلى التجارة والتبادل والتراكم الرأسمالى. ومع حاجة التجار إلى مخازن للبضاعة ومراكز للتسويق والبيع سواء فى أسواق المدن أو عند مفترقات الطرق فقد حصل التجار، فى مقابل ثمن، على حق إنشاء محطات تجارية وتحصينها والدفاع عنها عرفت باسم (بورج Bourg)، وأخذ منها تسمية (برجوازية) الذى أطلق كصفة على التجار الذين يجتمعون فيها.
ولما كان هؤلاء التجار ليسوا بذاتهم منتجين، لكنهم عناصر تنشيط مهمة للإنتاج بين قمة هرم السلطة والثروة، أى الطبقة الإقطاعية، والفلاحين والعبيد، الذين هم حقيقة وقود العملية الإنتاجية،فقد سميت طبقتهم بـ(الطبقة الوسطى). ومع التجارة بدت أهمية أن تقوم صناعات صغيرة تستفيد من المنتجات الزراعية بتحويلها إلى سلع جاهزة للاستهلاك مباشرة. وكانت المراكز التجارية المكان الأفضل لتجمع هؤلاء الصغار من الحرفيين لقربها من مراكز البيع والتبادل والتسويق.
وهكذا أضيف للطبقة الوسطى جناحها الثانى، ففضلا عن التجار، التحق بالطبقة الوسطى صغار الصناع فى المدن ثم كبارهم مع الثورة الصناعية فى القرن الثامن عشر. وقد كان من المستحيل أن تتم المعاملات التجارية فقط بالكلمة الشفهية والوعود الشخصية. لذا كانت الحاجة إلى قواعد تعامل واضحة ومحددة، وإلى قضاة يفصلون فى المنازعات ويقطنون فى مواقع قريبة من هذه المراكز التجارية أو داخلها، كما أنها كانت بحاجة إلى رجال يعرفون كيف تصاغ العقود والتقاضى حولها (محامين)، وكيف تتم إجراءات المطالبة بالديون واستيفائها (محاسبين)،وأنشئت الجامعات لتدريس القوانين التجارية المستقاة من القانون الرومانى (علماء وأكاديميين).
ومع مزيد من العلم والتخصص فى أفرع الحياة المختلفة من طب وهندسة ومحاسبة وتسويق وعلماء ومتعلمين فى شتى المجالات، أضيف للطبقة الوسطى الغربية مكونها الثالث لنكون أمام طبقة تتكون من رجال التجارة، ورجال الصناعة، والمهنيين حتى لو كانوا يعملون بأجر عند جهاز الدولة لكنهم تربوا على تقاليد الموظف العام الذى يعمل (فى) جهاز الدولة، وليس (عند) أشخاص جهاز الدولة.
وبمرور الوقت تحولت الطبقة الوسطى إلى هدف الطبقة الدنيا التى تتكون من الفلاحين والعمال، وأصبح التعليم هو الأداة الرئيسية للانتقال بين الطبقتين. كما قدمت الطبقة الوسطى قيما مختلفة عما كان سائدا من قبل. وعلى رأس هذه القيم، قيمتان: أولا قيمة العلم ودوره فى إطلاق طاقات الفرد والمجتمع، وثانيا قيمة الحرية، أى حرية الاعتقاد والتعبير والتعاقد والتملك والربح والتنافس بعيدا عن أى تدخل من أية سلطة، وإذا كان لابد من سلطة فلتكن فى أضيق حدود وبحرفية شديدة تجعل الدول حامية لأمن الجميع وحقوقهم وليست منحازة لأى طبقة من الطبقات الثلاث.
ومن هنا كانت هذه الطبقة أداة التغيير الأساسية فى أوروبا، ابتدءا من القرن السادس عشر حتى أواخر القرن التاسع عشر ضد التسلطية الملكية والعلاقات الإقطاعية العتيقة، بما فى ذلك رفض هيمنة الكنيسة، بل وقفت على رأس الثورات الأوربية الكبرى التى وضعت البشرية على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة فانتصرت لينتهى الأمر فيهما إلى سيادة الديمقراطية الليبرالية. ومن هنا ذهبت الكثير من الأدبيات السياسية لاعتبار أن وجود طبقة وسطى قوية ومستقلة عن الدولة مؤشر مهم على قرب التحول الديمقراطى، كما أن وجودها ضمانة مهمة لتحول الديمقراطية الناشئة (emerging democracy) إلى ديمقراطية راسخة (consolidated democracy).
***
وبالانتقال إلى مصر، حيث يتحدث الكثيرون، آسفين، عن أننا الآن بصدد تآكل أو انهيار الطبقة الوسطى المصرية. والحقيقة أن هناك لبسا فى الموضوع، وسوء تفاهم يصل إلى حد الخلل فى المرجعيات الفكرية. فالطبقة الوسطى التى قادت إلى التحول من المجتمع الإقطاعى إلى المجتمع الحداثى، ومن التسلطية إلى الديمقراطية، ومن الاستبداد إلى الليبرالية فى أوروبا، بل وأخيرا فى شيلى والأرجنتين وكوريا الجنوبية وأوكرانيا وجورجيا، هى النقيض التاريخى للطبقة الوسطى التى تنهار فى مصر الآن.
الطبقة الوسطى المصرية هى نتاج مرحلة ما بعد الثورة بامتياز، عاشت معه وكانت نتاجا طبيعيا لدولته. وبالتالى فلا هى طبقة حداثية أو ديمقراطية أو ليبرالية.. وبالتالى فتآكلها ليس نذير شؤم، بل قد يكون انفراجة نحو طبقة وسطى حقيقية أكثر رفضا لسيطرة الدولة على أغلب شئون المجتمع. فالطبقة الوسطى التى ازدهرت فى مرحلة ما بعد الثورة واستمرت بعده تختلف عن الطبقة الوسطى الحداثية الديمقراطية الليبرالية التى شهدتها أوروبا والكثير من الدول التى شرعت فى التحول الديمقراطى فى بعدين أساسيين على الأقل:
أولا، الطبقة الوسطى المصرية التى تلقت تعليمها بعد الثورة، وهى التى تحكم الكثير من مؤسساتنا السياسية والإعلامية والاقتصادية والأكاديمية الآن، هى طبقة موظفين. فهى لم تكن طبقة برجوازية مستقلة عن الدولة وإنما هى طبقة بيروقراطية تعيش فى رحم الدولة، أى طبقة من الموظفين بالأساس. إن قررت أن تعارض الدولة فهى لا تفعل ذلك بالأساليب المتعارف عليها ليبراليا وديمقراطيا مثل التظاهر، ولكن بالنفاق، ليس بالاعتصام ولكن بـ«التطنيش»، من باب فليقل الوزير والمدير ما يشاء ولتفعل البيروقراطية ما تشاء.. بما أنتج الدولة الرخوة التى يضع قادتها الأهداف ويسنون التشريعات ولكنها لا تتحقق لأن موظفيها لديهم أجندة خاصة بهم لا تتطابق مع أجندة الدولة، فتصبح هى بذاتها عبئا على الدولة، إذا قررت إحداث تنمية حقيقية. ومن هنا أصبحت هذه الطبقة أداة حفاظ على الوضع الراهن أكثر من محاولة تغييره لأن لديها دائما حلولا للتكيف مع الواقع غير مواجهته.. فضعف رواتب المدرسين يواجه بالدروس الخصوصية، وضعف رواتب الموظفين، يواجه بسياسة الدرج المفتوح، وندرة الوظائف الحكومية تواجه بضمان الأب لوظيفة لابنه. وثانيا، فإن غلبة الطابع البيروقراطى على الطبقة الوسطى المصرية جعلها طبقة بلا استقلال عن قياداتها، فيصوت كثير من العاملين فى شركات القطاع العام لمرشح الحكومة الذى هو غالبا أحد قيادات الشركة، وحين يدعو قادة الرأى العام جموع المصريين إلى ما قد يتناقض مع المهام الرسمية للموظفين، فإن الأولوية للوظيفة.. وهو ما يفسر ــ جزئيا ــ لماذا يتجاهل معظم أفراد هذه الطبقة لنداءات قادة المعارضة إلى وقفة شعبية أو للعصيان المدنى. وحتى فى الانتخابات تجد أغلب أفراد هذه الطبقة هم الأكثر عزوفا عن المشاركة فيها، بل تجدهم الأكثر نقدا للمظاهرات والمتظاهرين من أجل أى قضية.. فهى طبقة أقيلت من السياسة فى عهد عبدالناصر، فاستمرأت الإقالة،فاستقالت حتى بعد رحيله.. وعلى هذا تكون هذه الطبقة الوسطى المصرية النقيض المباشر للطبقة الوسطى الحية فى المجتمعات الأخرى، والتى تتمتع باستقلال نسبى عن الدولة، فتدين لها بالولاء لكنها لا تسحب هذا الولاء إلى شخص الحاكم أو رموز الحكم، بل ترى أن عليها مسئولية فى إصلاح شئونها.
إن جوهر الدور الذى تقوم به الطبقة الوسطى فى المجتمعات الأكثر تطورا هو أنها طرف فى تناقض فج بين تقدمها ــ أى تقدم الطبقة الوسطى ــ الاقتصادى والتعليمى والثقافى من ناحية والجمود السياسى والاستبداد المقترن بالفساد من ناحية أخرى. بيد أن الحالة المصرية تبدو مختلفة تماما حيث قامت الطبقة الوسطى الناصرية، والتى لم تزل امتداداتها معنا حتى اليوم، على أن تتكيف مع جميع أزمات الدولة وتسلطيتها بل ونفاقها. لذا فاختفاؤها ليس مما يستحق البكاء عليه.. وإن كانت أكبر مشكلاتنا فى أنها تنتج لنا جيلا جديدا تربى على الكثير من قيمها. ورغما عن وجود العديد من الرجال والنساء الشرفاء الذين خرجوا من عباءة الطبقة الوسطى، فإنهم استثناءات بسبب تعليمهم أو خروجهم على التقاليد البيروقراطية التى تطبع عقل الكثيرين من أبنائها.