ما قد يحدث فى فنزويلا: عودة الجنرالات - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:48 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما قد يحدث فى فنزويلا: عودة الجنرالات

نشر فى : الأربعاء 6 فبراير 2019 - 11:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 6 فبراير 2019 - 11:50 م

الأزمة المشتعلة فى فنزويلا تكاد تلامس أجواء الحرب الباردة بالتصعيد على حافة التدخل العسكرى المباشر.
لم تتورع إدارة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» عن التلويح بمثل هذا الخيار باسم الدفاع عن الحرية دون أن يكون الكلام مصدقا، فلم يعهد عن هذه الإدارة أية عناية بقضايا الحريات وحقوق الإنسان فى أمريكا اللاتينية ولا غيرها.
كما هى العادة فإنها المصالح الاستراتيجية لا المبادئ الإنسانية، استعادة مناطق النفوذ القديمة فى حديقتها الخلفية لا وعود الديمقراطية وإرساء قواعد الدول الحديثة، وقبل كل شىء وضع اليد عنوة على ثروات النفط الهائلة فى فنزويلا.
فى الأزمة اختبار حقيقى لنظام دولى لم تستقر قواعده الرئيسية ولا استبانت ملامحه الأخيرة رغم مضى عقود على نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتى السابق.
ما هو سائل فى العلاقات الدولية وموازين القوى يرجح التصعيد فى الأزمة الفنزويلية إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وبعض السيولة حولها براميل بارود تنذر بحروب أهلية، أو انقلابات عسكرية برعاية الاستخبارات الأمريكية، كأنها ردة كاملة عن التجربة الديمقراطية فى العقدين الأخيرين.
هناك قيود لا يستهان بها تجعل من التدخل العسكرى المباشر أمرا عصيا على التنفيذ، فالكلفة الاستراتيجية سوف تكون باهظة والمقاومة المتوقعة قد تجعل من فنزويلا مستنقعا أمريكيا يشبه ما جرى فى فيتنام، كما لا يوجد غطاء سياسى أوروبى أو داخل القارة لمثل هذا التدخل رغم اعتراف (19) دولة أوروبية و(10) دول لاتينية بإعلان رئيس البرلمان «خوان جوايدو» نفسه رئيسا انتقاليا.
السيناريو الأرجح: الانقلاب العسكرى.
يعترض هذا السيناريو أن الرئيس الفنزويلى «نيكولاس مادورو» يتمتع بولاء قيادات المؤسسة العسكرية، لكن لا أحد يعرف ما قد يئول إليه التصعيد بالضغوط الاقتصادية والسياسية لتفكيك النظام من داخله.
هناك دعوات أمريكية معلنة للانقلاب على «مادورو»، وهو خيار تحبذه دول الاتحاد الأوروبى.
لم يتردد «جوايدو» فى تبنى الخيار نفسه، أجرى اتصالات مع قيادات عسكرية وأمنية، ودعاها إلى التمرد وإعلان ولائها له.
بالنظر إلى الانقسام الفادح فى المجتمع الفنزويلى، بالمظاهرات والمظاهرات المضادة، والضغوط الدولية من أطراف متباينة، بما فيها الدول التى تدعم نظامه، التزم «مادورو» درجة لافتة من ضبط النفس خشية أن يسوء موقفه ساعيا بدوره إلى تعزيز مركزه داخل الجيش الفنزويلى.
بعد وقت أو آخر سوف تنكسر المعادلة ويلوح شبح الحرب الأهلية فى الشوارع المحتقنة.
بتلخيص ما فإن طرفى الأزمة يعولان فى الحسم على الموقف الأخير الذى يتخذه الجيش.
«مادورو» يستند إلى إرث سلفه الزعيم الفنزويلى الراحل «هوجو شافيز»، وهو شخصية كاريزمية وضابط سابق قام بانقلاب عسكرى فاشل، لكنه نجح فى كسب الانتخابات الرئاسية وفق برنامج اجتماعى يسارى يناهض السياسات الأمريكية ويدعو لوحدة القارة مستلهما تجربة «جمال عبدالناصر» فى مصر ــ كما أعلن أكثر من مرة.
«مادورو» ليس «شافيز» وعيوب نظامه تساعد على التصعيد ضده ومحاولة التخلص منه بالاغتيال، أو الانقلاب.
و«جوايدو» مدعوما من الإدارة الأمريكية يراهن أن الانقلاب المحتمل سوف يسلمه السلطة ثم يذهب إلى حال سبيله، وهو سيناريو يصعب التسليم به.
عودة الجنرالات إلى السلطة العليا فى دول أمريكا اللاتينية كابوس حقيقى بقارة دفعت أثمانا غير محتملة للتخلص من هذا النوع من الحكم، الذى استنزف مواردها ونكل بمواطنيها وأتبع قرارها لما تقرره الولايات المتحدة دون ما نظر لمصالح بلدانها.
لم تكن مصادفة أن اللاتينيين هم الذين أسسوا مدرسة نقد التبعية فى الدراسات الاقتصادية ولا أن آدباءهم الكبار تولوا كشف ما جرى لبلدانهم من تنكيل وإذلال وفساد ممنهج فى قمة السلطة، التى بدت كعرائس الماريونيت تحركها الاستخبارات الأمريكية.
فى مواجهة نظم التعبية المتوحشة نشأت حروب العصابات التى قاتلت فى الأحراش وألهمت جيلا كاملا، وكان «أرنستو تشى جيفارا» أيقونتها، وبزغ من داخل الكنيسة الكاثوليكية «لاهوت التحرير»، الذى تأثر به رأسها الحالى «البابا فرنسيس».
كان التطور الأكثر جوهرية فى قصة القارة المليئة بالمآسى الانتقال من حرب العصابات إلى الوسائل الديمقراطية، التى أفضت إلى قدر كبير من الاستقرار السياسى ومعدلات النمو وتوزيع أكثر عدلا للثروات الوطنية.
اجتاحت الدول اللاتينية على مدى عقدين موجة يسارية وصفت بـ«الوردية»، غير أن قاعدة شعبيتها أخذت فى التآكل تحت وطأة الفساد وسوء الإدارة بكثير من التجارب، وبينها التجربة الفنزويلية.
لم يكن الحصار الاقتصادى، الذى فرضته الولايات المتحدة، السبب الوحيد للأزمة المتفاقمة فى أغنى دولة لاتينية بمخزونها النفطى وأكثرها معاناة إنسانية بمعدلات الهجرة خارجها.
هناك مشاعر إحباط متزايدة من ارتفاع معدلات التضخم والبطالة إلى حدود غير متصورة، وانقسام اجتماعى وسياسى يستعصى على الترميم، وشروخ عميقة فى القواعد الدستورية تمنع فرص أى توافق وطنى.
الدساتير ليست نصوصا تكتب بقدر ما هى قواعد تلزم.
إحدى معضلات فنزويلا غياب أية قواعد دستورية يمكن التوافق عليها لإنهاء الأزمة بالوسائل السياسية على ما يدعو الأنصار الدوليين لـ«مادورو» بما يشبه الإجماع.
هكذا جرى الاستثمار فى بنية النظام لتقويضه بالكامل وتصفية الحسابات مع إرث «شافيز» الاشتراكى والتحررى.
وهكذا بدت الصورة عبثية تماما فى الأزمة الداخلية المتفاقمة ــ زعيم المعارضة يعلن نفسه رئيسا بغير أساس دستورى وديمقراطى، والولايات المتحدة ودول غربية أخرى تعترف به دون أى اعتبار للقانون الدولى، وكلام حول مساعدات إنسانية أغذية وأدوية بقيمة (20) مليون دولار شرط أن يتسلمها عبر المنافذ الحدودية «جوايدو» ويوزعها بمعرفته فيما يرفضها «مادورو» قائلا: «لسنا شعبا من المتسولين ولن نكون»، والأخطر تحريض الجيش على الانقلاب وقد تجاوز أية تقاليد واعتبارات.
هناك شىء من الترتيب المسبق هندس لتصعيد الأزمة والدفع بها للانفجار.
بغض النظر عن أية تقويمات موضوعية، أو غير موضوعية، لنظام الرئيس «مادورو» فإن التدخل الأمريكى يستفز قوى المقاومة فى القارة.
وفق القاعدة الرياضة فلكل فعل رد فعل يساويه فى القوة ويضاده فى الاتجاه.
كان إعلان كوبا التعبئة العامة للدفاع عن فنزويلا ضد أى تدخل استعمارى أمريكى إشارة مبكرة لما قد يحدث إذا ما أفلتت الحوادث من عقالها.
كما كان التحذير الروسى من محاولة شرعنة اغتصاب السلطة إشارة أخرى إلى التعقيدات الدولية المحتملة على مسرح سياسى مفعم بالمخاطر والمخاوف.
ما قد يحدث فى فنزويلا يتجاوز أثره حدودها إلى أسئلة كبرى لا يمكن تجنبها.
هل يحتمل العالم كل هذا التراجع فى القيم الديمقراطية والاجتماعية، التى صاحبت صعود اليسار اللاتينى قبل انكساره، وزيادة النزعة اليمينية الشعوبية التى بدأت تتسع بعد انتخاب «ترامب» رئيسا للولايات المتحدة، وعودة جنرالات أمريكا اللاتينية للحكم بانقلابات تهندسها الاستخبارات الأمريكية؟