واضح للكافة الاختلاف فى الرؤى والمواقف حول إدارة فترة التحول نحو إقامة النظام الديمقراطى المنشود. الاختلاف كان جليا فى جلسة ما سمى بالحوار الوطنى وهو مشهود كل يوم فى المقابلات التليفزيونبة وفى ما تنشره الصحف من أخبار ومقالات. لب الاختلاف هو حول طريقة إدارة المرحلة الانتقالية. هل تقبل جماهير الشعب والقوى الناطقة باسم مصالحها الاجتماعية وتوجهاتها السياسية بالبرنامج الذى يضعه المجلس العسكرى وبجدوله الزمنى دون مناقشة أم تجادل فيه وتسمع أصواتها حتى تكون عناصر الانتقال ومراحله متفقا عليها؟ هل يمكن لمرحلة انتقال نحو الديمقراطبة ألا تتسم بطابع ديمقراطى؟ أولى خطوات مرحلة التحول الديمقراطى هى التوصل إلى برنامج وجدول زمنى متفق علبهما، واضحين، ومتناسقين. ولكن الوضوح والتناسق مطلوبان حتى إذا كان البرنامج مفروضا. غير أنهما وللأسف غائبان. والا، فكيف يمكن إجراء الحوار الوطنى بعد صدور الإعلان الدستوري؟ ناهيك عن إجرائه دون الإعلان عن أى معايير لاختيار المشاركين فيه أو عن جدول لأعماله. وكيف يمكن أن يصدر المرسوم بقانون الأحزاب قبل الإعلان الدستورى؟ وكيف لم ينتبه مصدرو هذا وذاك إلى التناقض بينهما؟
إن نص الفقرة الثالثة من المادة الرابعة من المرسوم بقانون الأحزاب يحظر قيام الأحزاب أو اختيار قياداتها أو أعضائها على أساس طبقى أو فئوى أو جغرافى بينما تحظر المادة الرابعة من الإعلان الدستورى الأساس الدينى وحده! ثم إن الإعلانات الدستورية هى وثائق مختصرة، توفر الضمانات للمواطنين وترسى الأساس لعمليات الانتقال من نظام إلى نظام. والاختصار هو لعدم المصادرة على حق الأطراف المشاركة فى مرحلة التحول فى صياغة خصائص النظام الجديد وهو أيضا للحيلولة دون الاقتباس من النظام القديم. لقد جاء الإعلان الدستورى فى 62 مادة، والدستور الأمريكى كله من 89 مادة! ولا تقف المفارقات المؤسفة عند هذا الحد. لقد استفتى الشعب على تعديلات فى الدستور، ثم صدر اعلان دستورى يحل محل هذا الدستور! قد يقال إن الأحكام المستفتى عليها جديدة فى صياغتها، مقارنة بالمواد الأخرى الواردة فى الإعلان، ولذلك وجب الاستفتاء عليها. عندئذ، كان ينبغى ايراد كل المواد التى استفتى ووافق عليها الشعب فى الإعلان الدستورى. ولكن هذا لم يحدث! لقد استفتى الشعب على فقرة أخيرة مضافة إلى المادة 189 تتعلق بحق رئيس الجمهورية فى طلب إصدار دستور جديد فى الظروف العادية، وهى خلاف المادة 189 مكررا، التى تتعلق بإصدار دستور جديد فى الحالة الراهنة بالذات. غير أن الإعلان الدستورى أورد نص المادة 189 مكررا وحدها، ولم يرد فيه ذكر للفقرة الأخيرة المفترض إضافتها للمادة 189! فعلام إذن كان الاستفتاء عليها، بصرف النظر عن أنها حكم لا لزوم له، فاستفتاء الشعب له جلالته ولا ينبغى أخذه باستخفاف أو استعجال.
أما المرسوم بقانون الأحزاب فهو ينص فى مادته السابعة على أن يكون الإخطار بتأسيس حزب مصحوبا بتوقيع خمسة آلاف عضو مؤسس من عشر محافظات على الأقل بما لا يقل عن 300 عضو عن كل محافظة. أما المادة التاسعة من المرسوم فهى تنص على أن يتمتع الحزب بالشخصية الاعتبارية وأن يمارس نشاطه السياسى من اليوم التالى لمرور ثلاثين يوما على إخطار لجنة شئون الأحزاب دون اعتراضها. هذا يعنى أنه فى أحسن الأحوال لا يمكن أن ينشأ حزب سياسى جديد أفرزته الثورة والحراك غير المسبوق الذى أحدثته فى المجتمع السياسى المصرى قبل شهر يونبو. ولكن المجلس العسكرى أعلن أن الانتخابات التشريعية ستجرى فى سبتمبر، فكيف يتأتى لأحزاب الثورة أن تفتح مقارا لها، وان تدعو لمبادئها، وأن تضم أعضاء لها، وأن تنظم حملاتها الانتخابية، وأن تعرف ببرامجها خلال شهور ثلاثة منها شهر رمضان المعظم وعيد الفطر المبارك؟ إذا غضضنا الطرف عن الإعلان الدستورى وعن تعسف المرسوم بقانون الأحزاب وعن التناقض فيما بينهما، فإنه لا يمكن فى ظل هذا الجدول الزمنى أن تجرى انتخابات جادة تفرز برلمانا تمثيليا مسئولا يرعى ويطلق ضربة البداية فى صياغة الدستور الجديد. هكذا يكون التحول الديمقراطى مهددا من قبل أن يبدأ!
لا بد من تأمين النجاح لمرحلة التحول الديمقراطى بتوفير أفضل الظروف لها. هذا التامين سيكون اقتصادا فى الوقت وإن استدعى اطالة مرحلة التحول! التسرع سيؤدى إلى فشل، وإلى العودة إلى مرحلة انتقالية جديدة، وهو ما يعنى أن فترة عدم الاستقرار ستمتد. النظام التمثيلى الديمقراطى آت لا محالة. هو آت لأن الشعب الذى ثار عازم على تحقيقه ولأن النظام السلطوى التسلطى لم يصبح ممكنا. لو كان بإمكان التسلط والقمع أن ينجحا فى تأمين استمرارية النظام السابق على الخامس والعشرين من يناير، لكان هذا النظام قائما حتى الآن. ثم إن الأدوات التى كانت فى أيدى النظام السابق أصبحت غير متوافرة فى الوقت الحالى ولن تكون فى المستقبل. لن يجرؤ وزير داخلية أو رجل أمن على أن يسىء استخدام سلطاته بعد ما يشاهده حاليا من سخط، وقبض، واتهامات، ومحاكمات. وعلى الرغم من عودة مؤسفة لحرص الناس فيما يقولون ولشىء من الخوف على مصائرهم، فإن فرعنة من فى السلطة، رئيسا كان أو وزيرا أو خفيرا، قد انتهت إلى غير رجعة، وهو ما يجعل دور اعلام الدولة فى تشكبل العقول وفى السيطرة عليها غير ذى موضوع كذلك.
المجلس العسكرى هو قوة سياسية الآن. لا بد أن يتفق مع بقية القوى السياسية، وكذلك الاجتماعية والاقتصادية، على برنامج المرحلة الانتقالية وعلى جدولها الزمنى، حتى يصدرهما بعد ذلك، وهو مطمئن، باعتباره متوليا لإدارة شئون البلاد. عندها سيكون المجلس قد آسدى صنيعا جليلا للوطن، يختصر المرحلة الانتقالية، ويدخل به التاريخ من أوسع أبوابه.