تطور النظام السياسى لثورة 1919 - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 8:25 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تطور النظام السياسى لثورة 1919

نشر فى : السبت 6 أبريل 2019 - 11:35 م | آخر تحديث : السبت 6 أبريل 2019 - 11:35 م

فى شهر مارس الذى انتهى منذ أيام، كان الاحتفاء بذكرى ثورة سنة 1919 مدهشا، وهو كشف مجددا للتاريخ عن قنوات لا تراها العين المجردة تنتقل من خلالها من جيل إلى جيل تجارب الشعوب وخبراتها. لعشرات السنين لم ينصف الحكم فى مصر هذه الثورة المعتبرة ولا هو كان عادلا مع زعمائها. المحتفون بذكرى الثورة شدد بعضهم على أن الثورة نجحت فى تحقيق أهدافها، منبهين إلى البيئة الدولية التى أحاطت بها، فى رد مباشر على من يشككون فيها وعلى الموقف الذى اتخذه منها نظام ثورة يوليو، واهتم آخرون بالإشارة إلى ازدهار الآداب والثقافة والفنون وحرية الرأى فى ظل النظام السياسى الذى نشأ عنها. موضوع مقال اليوم هو تطور هذا النظام وتبيّن بعض ما حققه والأهم استشفاف ما يمكن أن يكون قد أدى إلى سقوطه. لأغراض هذا المقال، النظام السياسى هو مجموع الفاعلين السياسيين والعلاقات فيما بينهم من تأثير وتأثر، والتى تندرج فى إطارها عملية اتخاذ القرار بناء على القواعد المعتمدة لاتخاذه أو بانتهاك هذه القواعد. والنظام السياسى كائن حى، فيه ما هو ثابت وفيه المتغير.
ضمنيا، كان لهذا النظام السياسى عند نشأته ثلاثة أهداف وهى إلغاء التحفظات الأربعة التى اقترنت بإعلان بريطانيا إلغاء الحماية على مصر، واستكمال بناء الدولة الوطنية الحديثة، وإقامة حياة سياسية تحقق الهدفين الأولين. الترابط بين الأهداف الثلاثة لا يحتاج إلى بيان.
***
النظام السياسى لثورة 1919 تباين فى العشرينيات من القرن الماضى عنه فى الثلاثينيات ثم فى الأربعينيات منه التى نضم إليها الخمسينيات الأولى. فى العقود الثلاثة كان ثمة فاعلون ثابتون وهم الملك والاحتلال البريطانى وحزب الوفد، تضاف إليهم أحزاب الأقلية وشخصيات مستقلة خاصمت الوفد واعتمدت على الملك.
فى العشرينيات كان الثابتون هم كل الفاعلين المؤثرين فى اتخاذ القرار. أول مشكلة واجهت النظام كانت بشأن سلطات الملك. اختلف رئيس الوزراء سعد زغلول فى العام التالى مباشرة لاكتساح الوفد لانتخابات سنة 1924 مع الملك حول سلطاته، فلما احتدم الخلاف استقال وهو التصرف الطبيعى فى النظم البرلمانية. دستور سنة 1923 دستور حديث يحمى حقوق المصريين وينشئ نظاما لائقا لاتخاذ القرار ويفصل بين السلطات إلا أن بعض صياغاته، فضلا عن مساندة وجدها لدى المقربين منه، سمحت للملك بأن يفسرها لحسابه. هكذا حل أحمد زيوار رئيس حزب الاتحاد الورقى القريب من السراى البرلمان المنتخب فى السنة السابقة. فلما عقدت انتخابات جديدة فى سنة 1925 اكتسحها مرة أخرى حزب الوفد وانتخب البرلمان الجديد سعد زغلول رئيسا له، فما كان من الملك فؤاد إلا أن حلّه مجددا بناءً على مشورة زيوار بعد تسع ساعات من انعقاده. الأمر تكرر بعدها بسنوات ثلاث، فى سنة 1928، عندما اكتسح الوفد الانتخابات مرةً أخرى فحلّ زعيم الأحرار الدستوريين محمد محمود البرلمان. هذان مثالان مهمان على عرقلة نشأة حياة سياسية سليمة. بالتوازى مع ذلك، وفى ظل النظام السياسى الناشئ والمتعثر، تطور النظام الاقتصادى. بنك مصر الذى أسسه طلعت حرب فى سنة 1920 بدأ فى إنشاء شركاته. فى العشرينيات الأولى تولّى اسماعيل صدقى رئاسة جمعية الصناعات بالقطر المصرى، التى صارت فيما بعد اتحاد الصناعات المصرية، وبدأت فى العمل كجماعة ضغط تهدف إلى تنمية الرأسمالية المصرية، وهى تنمية تسهم فى إرساء الدولة الوطنية الحديثة فى واحد من جوانبها.
فى الثلاثينيات اتسع المسرح السياسى فزاد عدد الفاعلين فيه وتعددت القضايا. فى 1928 كانت جماعة الإخوان المسلمين قد نشأت وهى بدأت فى النشاط فى الثلاثينيات وصارت إلى بناء تنظيمها. فى الثلاثينيات أيضا تسربت إلى مصر أفكار الفاشية التى عاشت عندئذ أفضل أوقاتها فى أوروبا، فظهرت مصر الفتاة وقمصانها الخضراء، ميليشياتها، على شاكلة القمصان السوداء التى أنشاها موسولينى فى إيطاليا، وهى ظاهرة سلبية انجر إليها الوفد نفسه لمواجهتها فأنشأ القمصان الزرقاء. فى الثلاثينيات أيضا ألغى اسماعيل صدقى دستور 1923 وأصدر دستوره التسلطى المناوئ لكل مبادئ ديمقراطية، فقاومه الشعب حتى أسقطه فى سنة 1935 وعاد العمل بدستور سنة 1923. غير أن اسماعيل صدقى هو نفسه الذى أصدر قانونين بتخفيض إيجار الأرض الزراعية فى 1930 و1931 وعمل على إنشاء بنك التسليف الزراعى فى سنة 1931 وعهد إليه كما إلى الشركة العقارية المصرية بمساعدة المدينين لتفادى البيع القسرى لأراضيهم بعد الأزمة المالية العالمية فى سنتى 1929 و1930. هكذا، إلى جانب الوفد والتيار الشعبى والتعددى، تبلورت فى الثلاثينيات ثلاثة اتجاهات سياسية فى الساحة السياسية المصرية، الأول هو الإسلام السياسى كما مثله الإخوان المسلمون، والثانى هو الاتجاه الفاشى، والثالث هو اتجاه التحديث الأوتوقراطى الذى رأى فى التعددية والديمقراطية تبديدا للجهد والوقت. الاتجاهان الأول والثالث ما زالا موجودين إلى يومنا هذا، أما الفاشية فربما اختفت تنظيماتها المستقلة إلا أن مقارباتها، ومع الأسف، تخللت الاتجاهين الأولين. يذكر فيما يتعلق بالتيار الشعبى والتعددى طابعه العلمانى وهو ما اختلف فيه مع الإسلام السياسى والفاشيين، ومن العلامات على ذلك رفض رئيس الوزراء النحاس، وهو رجل الورع والديِّن، تلاوة القرآن الكريم فى حفل تنصيب الملك فاروق، حتى لا يختلط الدين بالسياسة وليكون التنصيب واضحا من جانب الشعب وحده. فى الثلاثينيات اندرج النظام السياسى المصرى فى النظام الدولى فتأثر بالاتجاهات الجديدة فيه الفاشية كما سبق بيانه وكذلك الماركسية. وكان أكبر مظاهر الاندراج فى النظام الدولى والتأثر به نجاح الحركة الوطنية فى أن تفرض فى سنة 1936 على بريطانيا، فى إطار الاستعداد للمواجهة التى كانت ترتسم بينها، من جانب، وألمانيا النازية، من جانب آخر، إبرام المعاهدة التى سقطت بمقتضاها التحفظات الأربعة وأصبح لمصر أن ترفع عدد أفراد الجيش المصرى، وهى المعاهدة التى تلاها إلغاء الامتيازات الأجنبية فى سنة 1937 وكلاهما فى عهد حكومة رأسها النحاس زعيم الوفد، وانضمت مصر إلى عصبة الأمم. فى هذه الفترة النحاس كان أيضا وراء إنشاء اللجنة العربية العليا للدفاع عن عروبة فلسطين إبان الثورة الفلسطينية المندلعة سنة 1936.
***
وواصل النظام السياسى اتساعه فى الأربعينيات. الفاعلون الثابتون كانوا موجودين، وإن حلَ السعديون المنشقون عن الوفد محل الأحرار الدستوريين كحزب الأقلية البديل، وترسَّخ الإخوان المسلمون ومصر الفتاة، وكان الجديد تبلور الاتجاهات الماركسية فى عدد من التنظيمات اليسارية، ونشأت فى الوفد نفسه الطليعة الوفدية، من شباب الوفد المتأثر بتنظيمات يسارية مثل طليعة العمال والفلاحين. وتآلف العمال والطلبة فى لجنة تحمل اسميهما. بفعل التنظيمات اليسارية برزت القضية الاجتماعية ودار الحديث عن ثلاثى الجهل والفقر والمرض، ونشط المجتمع المدنى وتداولت جماعة الرواد فكرة الإصلاح الزراعى، وصدر أول قانون للتنظيمات العمالية عن حكومة الوفد فى سنة 1942 وفى نفس السنة صدر أيضا قانون بإيجاب استعمال اللغة العربية فى العلاقات بالحكومة ومصالحها. وزاد فى الأربعينيات تأثر مصر بالنظام الدولى. بفعل الحرب العالمية والانتصارات التى حققها النازيون فى بدايتها، مال إليها المتأثرون بالفاشية ومنهم مقربون من الملك واستمالوه إلى معسكرهم ظنا منهم أن هذا سيخلص البلاد من البريطانيين. بالتوازى استمر النحاس فى مطالبة البريطانيين بالجلاء بعد انتهاء الحرب وإن لم يغازل النازيين فى أى وقت، فى أغلب الظن لأن مقاربتهم للسياسة والحياة اختلفت اختلافا جذريا عن مقاربته القانونية والتعددية والسلمية. هذا هو السياق الذى ينظر من خلاله إلى حادثة 4 فبراير سنة 1942. أنذر البريطانيون، المتراجعون أمام قوات روميل فى «الساحل الشمالي»، الملك وألزموه بتكليف مصطفى النحاس، زعيم الأغلبية الذى كان قد أقاله فى سنة 1938، بتشكيل الوزارة. رفض النحاس فألح عليه الملك مرةً بعد أخرى حتى لا يفقد عرشه، فقبل النحاس حتى ينقذ هذا العرش وحتى لا تخسر مصر كل ما تحقق منذ سنة 1922، وكذلك للوقوف فى وجه الفاشية فى مصر. عربيا، دعا الوفد فى فترة السنتين والنصف التى حكم خلالها فى الأربعينيات إلى الاجتماع التأسيسى لجامعة الدول العربية ووضع النحاس خاتمه على الميثاق الوطنى اللبنانى عندما صدر باعتباره اقتراحا منه على الزعماء اللبنانيين فى سنة 1943. من قبل أن تنتهى الحرب تخلص الملك من الوفد وعادت حكومات الأقلية السعدية وصدقى إلى الحكم. لجأت هذه الحكومات إلى الأمم المتحدة، التى اشتركت مصر فى إنشائها، وإلى التفاوض منهجا لإجلاء البريطانيين عن مصر وتوصل صدقى ووزير الخارجية البريطانية بيفن إلى مشروع اتفاقية قوبلت بالرفض من جانب المصريين، وإن كانت شديدة الشبه بالاتفاقية الموقعة بعد ذلك فى سنة 1954 والتى تم جلاء القوات البريطانية بموجبها. الأربعينيات شهدت اتساع نشاط المجتمع المدنى الذى شيّد البنية الأساسية للرعاية الصحية وتنوع الاقتصاد شيئا ما بالتصنيع للإحلال محل الواردات أثناء الحرب وانقطاع خطوط المواصلات.
غير أن الحدث الأهم لدى نهاية الأربعينيات كان حرب فلسطين وهزيمة الجيوش العربية فيها. ليس هذا سياق الحديث عن الحرب ذاتها. نقتصر على ملاحظة أنها كانت وراء ظهور فاعل إضافى جديد فى السياسة المصرية هم مجموعة الضباط الشبان الذين انضموا للجيش بفعل اتفاقية سنة 1936. بحث هؤلاء الضباط عن طريقهم فى السنوات الأربع ما بين الحرب وسنة 1952. خلال هذه السنوات اشتد نشاط الإخوان المسلمين ودبر جهازهم السرى اغتيالات كان رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى واحدا من ضحاياها، واغتيل حسن البنا مرشد الإخوان نفسه، واكتسح الوفد الانتخابات من جديد، وتولّى الحكم، وطبق مجانية التعليم حتى نهاية المرحلة الثانوية، وألغى النحاس معاهدة 1936، وقامت حرب العصابات فى منطقة القناة، وأخيرا اندلع حريق القاهرة فى يناير 1952. ومن جديد أيضا أقيل النحاس. ولم تمر ستة شهور وأربع حكومات حتى قامت حركة الجيش وأرغمت الملك على التنازل عن العرش، وما هى إلا ستة شهور أخرى حتى حُلّت الأحزاب السياسية جميعها، فتوقفت فورا عن النشاط وماتت، وإن بقى بعض رجال الأقلية قريبين من الحكم الجديد.
***
واحد من أهم الأسئلة التى يمكن إثارتها هو عن أسباب قبول النحاس بالذات لحل الأحزاب بل ومحاكمة عدد من زعماء الوفد، وزوجته، بدون أى مقاومة، وهو الذى كانت شعبيته طاغية حتى إن هناك من قالوا إنها تعدت شعبية سعد زغلول نفسه. حل الأحزاب ومحكمة الثورة ثم ما صارت إليه أزمة مارس 1954 كانوا معا النهاية للنظام السياسى لثورة 1919. ليست ثمة معلومات عن أسباب قبول النحاس، وهو ما يدعو إلى الحدس.
النظام السياسى لثورة 1919 لم يقصر فى حكم مصر وفى العمل على تحقيق أهدافه. ولكن تحقيق الأهداف الثلاثة فى نفس الوقت كان كثيرا جدا عليه. هدفا إخراج بريطانيا من مصر وإقامة حياة سياسية صحية استغرقا جهود النظام فلم يلتفت بشكل كافٍ لقضايا ملحة أخرى كالقضية الاجتماعية. الفاشيون ضربوا فى النظام لرفضهم أصلا للتعددية وحرية اختيار الشعب لحكامه ومحاسبتهم، واليسار بدوره لم يكن أغلبه معنيا فى ذلك الوقت إلا بديكتاتورية البروليتاريا. والملك بالذات، هذا وذاك، والقريبون منهما، لم يكفوا عن التحرش بإرادة الشعب حتى قوضوا النظام وجعلوه نظاما معطوبا. ربما كان هذا تقدير النحاس فى بداية سنة 1953 وربما هو اعتقد أيضا أن الشعب وصل مثله إلى محصلة أن النظام معطوب.
مشروع دستور سنة 1954 كان محاولة راقية لبناء نظام جديد يعتنق نفس قيم ومبادئ نظام 1919 ولكن بعد تحديثها. لأسباب ليست هذه مناسبتها، ألقى به فى «صفيحة قمامة» وسارت مصر فى اتجاه آخر.
بعد خمسة وستين عاما من مشروع دستور 1954 ومائة عام من ثورة 1919 ما زالت قيمهما ومبادئهما سارية فى ضمير المصريين. لعلها، مع قيم العدالة الاجتماعية التى بثتها ثورة 1952، تكون أسس النظام السياسى المصرى فى مستقبل قريب.

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات