نحو إعادة فهم السلطوية - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:28 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحو إعادة فهم السلطوية

نشر فى : السبت 6 مايو 2017 - 11:00 م | آخر تحديث : السبت 6 مايو 2017 - 11:00 م
مع مطلع هذا العام كنت قد قررت أن يكون التركيز على الديكتاتورية لا على الديمقراطية من منطلق أن مصر فى الظروف الراهنة هى فى نقطة أبعد ما تكون عن أى تحول ديمقراطى حقيقى ودائم. كانت وجهة نظرى ومازالت أن مصر ليس فيها ديمقراطية ولا ديمقراطيين، هناك أشخاص مؤمنون بالفكرة لكن ممارسات معظمهم وثقافتهم ليست ديمقراطية على الإطلاق، هى مزيج من الشعبوية والسلطوية الفردية ــ ليتها حتى جماعية ــ والمزاجية. هناك استثناءات قطعا لكنها للأسف غير كافية لصنع أى «تيار» يستطيع أن يضغط فى اتجاه أى تحول ديمقراطى حقيقى يتمتع بالديمومة، ينطبق هذا الكلام على الإسلاميين والعلمانيين على السواء.
فإذا ما أخذنا فى الاعتبار أننا أمام سلطة لا ترفض فقط الديمقراطية من منظور مصلحى ولكن تعتبرها ــ أيضا تهديدا قيميا حقيقيا لتراث حكمها وبقاء قدرتها على حكم الدولة، فكانت رؤيتى المتواضعة أن الكلام يجب أن يتجه إلى الحديث عن السلطوية لا عن الديمقراطية، لا باعتبار الأولى مفضلة على الثانية، ولكن باعتبار أن الثانية غير موجودة فى أى أفق قريب للتحول، ومن ثم فإن فهم السلطوية وعوامل بقائها قد يكون أول الخيط لتحريكها قليلا نحو اليسار نحو نسخة أكثر تشاركية ومن ثم نحو خطوة أبعد للتغيير الديمقراطى المنشود.
ردود فعل متشنجة من بعض الأصدقاء قبل الخصوم مخلوطة بعبارات شعبوية سجعية عن أن الديكتاتورية سيئة والديمقراطية جيدة ــ وكأننى كنت أقول بعكس ذلك ــ بالإضافة لتشكيك معتاد فى النيات من قبل بعض المنتمين للتيارات الإسلامية، فضلا عن قيام بعض الشخصيات العامة بالترحيب المبدئى بكتاباتى من باب أنها تصب فى فكرة «الإصلاح من الداخل» والخلط بين موقفى ومواقف آخرين أظنها أبعد ما تكون عنى، قررت التوقف المؤقت حتى يهدأ البعض لنعاود الحديث عن السلطوية الذى أظنه حديثا مهما ولا فكاك منه.
***

فى تقديرى أنه ورغم أهمية الحديث عن الانتخابات الرئاسية القادمة وعن الانتخابات المحلية التى لا نعرف لها عنوانا ولا معادا ولا أفقا، إلا أن موضوع السلطوية فى مصر أعقد بكثير من الحديث عن الاستحقاقات الانتخابية بالمقاطعة أو المشاركة، الأخيرة قطعا جزء لا يتجزأ من أى حديث محتمل عن آفاق التغيير فى المستقبل، لكنه غير كافٍ، لأننا إذا كنا قد اتفقنا على أن الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، فإن السلطوية كذلك ليست مجرد غياب هذه الصناديق، بل هى معادلة أوسع بها ما هو إجرائى، وما هو عملياتى، وما هو مؤسسى، وما هو قيمى وثقافى وهكذا.
الحديث عن السلطة الحاكمة فى مصر الآن على أنها شبكات تخون الوطن لصالح مصالح ضيقة، أو لصالح من يدفع أكثر، أو على أنها مجموعة عصابات تدير «عزبة» لتأخذ من خيراتها وتنهبها فى جيوبها وحساباتها السرية فى تقديرى كلام شعبوى وسطحى وغير دقيق. لا يمكن قطعا أن ننفى أن هناك بالفعل من ينتمى لشبكات الحكم فى مصر بدوافع مصلحية بحتة هى أبعد ما تكون عن مصلحة الوطن، أو أن هناك من يسرق الوطن، أو أن هناك من يتعامل مع الوطن باعتباره غنيمة أو عزبة، لكن فى تقديرى ليس هذا هو المحرك الرئيسى لعجلة السلطوية فى مصر، فالأمر أكبر وأعقد من ذلك بكثير.
على سبيل المثال وليس الحصر، فإن أزمة الجزيرتين المصريتين تيران وصنافير ليست بسبب أن هناك سلطة تخون الوطن وتبيعه لآل سعود، ولكن لأن هناك سلطة تستهتر بالرأى العام وتعتقد أن إلهامها الشخصى قادر على إعادة هندسة الإقليم ومن ثم دفع مصر لدور ريادى به اعتقادا أن لها من الدعم الشعبى والإلهى ما يكفى لاتخاذ أى خطوات مهما كانت متهورة دون حسابات كلفتها. كذلك فإن قيام السلطة الحاكمة بالتضييق على المعارضة أو بالدفع بالشباب فى السجون، ليس سببها أن النظام الحاكم معادٍ للبشرية أو لحقوق الإنسان، ولكن لأنه نظام نرجسى لديه تعريفات ضيقة لمفاهيم الحرية والحقوق ولديه اعتقاد راسخ بأن الدولة المصرية (الممثلة فى مؤسسات النظام)، لديها حصانة مقدسة قديمة فرعونية كانت أو إسلامية، ولأن مصر «التى علمت البشرية» قادرة على تجاوز أى معايير حضارية معاصرة تحد من حركتها وتحاسب تصرفاتها السياسية وأنها قادرة بدافع أبوى كهنوتى على المسامحة متى أرادت ذلك.
حتى فى الحالات التى تبدى فيها مصر السلطة قدرا من الاستجابة للضغوط الدولية ــ موضوع آية حجازى على سبيل المثال ــ فإنها تفعل ذلك بنفس ثقافة ابن البلد الذى يعتقد أنه قادر على الضحك على «الخواجة» الساذج الذى لا يفهم بالضرورة ما يفهمه ابن البلد الذى يقدر بحكم تقاليده وعراقته وأصالته وبركة حورس أو بركة الله أو كليهما معا على إحراز المكسب البعيد بقبول الخسارة القريبة!
بعبارة أخرى فإن السلطوية فى مصر ليست مجرد موقف سلطوى غائى سطحى قابل للتغيير بإزاحة هذا الشخص أو ذلك، ولكنه موقف قيمى مؤسس على مجموعة أساطير مرتبطة بتاريخ الدولة المصرية وهذه الأساطير تجد الكثير من الصدى الشعبى والنخبوى، الإسلامى والعلمانى على السواء، ومن ثم فإن فهم الأساطير المؤسسة للحكم السلطوى فى مصر بالإضافة إلى تفهم أدوات حكمه هى أولى خطوات دفع السلطوية المصرية قليلا نحو اليسار أملا فى الوصول قريبا من نقطة المنتصف السياسى والأيديولوجى، ووقتها فقط يمكن أن نبدأ فى الحديث عن تحول ديمقراطى حقيقى.

***

الحديث عن السلطوية أيضا يتطلب بعض المصارحة عن تجاوزها لأطر السلطة وعن كونها مكونا رئيسيا فى الثقافة السياسية للمعارضين يمينا ويسارا، أى إن الحديث عن تفكيك السلطوية هو فى الواقع حديث عن القوى السياسية التى يفترض أن تقود عملية التحول الديمقراطى، هو حديث عن الشعبوية، عن الفردية، عن الأبوية، عن الشللية، عن المزاجية، عن العاطفية، عن قصر النظر، عن البحث عن المكاسب السريعة، عن معاداة الحداثة السياسية، قبل أن يكون حديثا عن عدم التوحد أو التشرذم أو عدم التخطيط، عن الترشح أو عدم الترشح لأى عملية انتخابية مستقبلية.
الحديث عن السلطوية كذلك هو ليس فقط حديثا عن الدولة، لكنه أيضا حديث عن المجتمع، شبكة علاقاته، مؤسساته، ثقافته تجاه السلطة، دور مؤسسات التعليم فيه، دور المؤسسات الدينية فيه، هو حديث عن القبلية المجتمعية والسياسية، حديث عن الفقر والجهل، عن تلك الهوة الرهيبة بين السياسات الكبرى (الدستور والانتخابات والحقوق والحريات)، والسياسات الصغرى (لقمة العيش، المياه النظيفة، الرعاية الصحية، الصرف الصحى...الخ).
الحديث عن السلطوية كذلك هو حديث عن الدين، سردياته، مؤسساته، مرجعيته، دور قياداته فى غزل شبكة كهنوتية معقدة متعاقدة حصريا مع كل ما هو أبوى، كهنوتى، رجعى، ضد كل ما هو فردى إنسانى، حداثى، تعددى!
وأخيرا، فالحديث عن السلطوية هو حديث عن الفرد، عن آماله وأحلامه وتنشئته السياسية، عن خياراته، وعن نفسه البشرية المعقدة، عن مشاعره بين الخوف والأمل، بين الرغبة فى التفرد أو القبول بلعب دور كومبارس ضمن المجاميع، عن خياراته بين الحرية ذات الكلفة العالية، وبين التبعية الأكثر أمنا.
لا يعنى هذا أننا يجب أن نغرق فى التنظيرات، ولكن يعنى أن الحديث الجاد عن السلطوية دون أى اعتبار «للعشم» من شلة الأصدقاء والأصحاب، دون أى خوف من خدش حياء دعاة التغيير، ودون التخوف كثيرا من ردات فعل السلطة والمجتمع والمؤسسات الدينية، هو وحده الكفيل بوضعنا على الطريق الصحيح للتغيير الدائم المستقر الذى هو أمر صعب ومعقد وطويل ولكنه بكل تأكيد ليس مستحيلا. فى مجموعة من المقالات المتصلة أو المنفصلة بحسب ظروف النشر ومساحته وتوقيتاته، ابدأ الحوار حول ومع السلطوية، فلننسى الديمقراطية قليلا، ونتعامل مع الأمر الواقع لعل وعسى ينتج عن ذلك أى جدال فكرى ومن ثم سياسى ينتهى بأفكار أكثر جدية عن التغيير وفرصه وتوقيتاته فى مصر.
أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر