هل من الممكن تخيل محطة قطارات باب الحديد بالقاهرة (رمسيس حاليا) خالية من المسافرين والمودعين؟ كان هذا يوما لا يُنسى لمن عاصره، فى نهاية الأربعينيات من القرن العشرين. أمر وقتها أحد قادة وزارة الداخلية المصرية، بإخلاء المحطة من الجمهور. فالعملية دقيقة، والمخاطر كبيرة ويشرف عليها بنفسه أحد كبار الضباط البريطانيين. ففى هذا اليوم يتم نقل السجين السياسى الداهية جمال غالى، طالب كلية العلوم من القطار القادم من الصعيد إلى قطار فى الوجه البحرى، متوجها إلى سجن مشدد آخر. انتهت العملية الدقيقة بهروب غالى فى صفعة قوية إلى المحتل.
من كان يتخيل أن هذا الشاب هو نفسه جمال غالى الشاب الميسور، المتعلم تعليما راقيا، المتخصص فى الكيمياء، الذى قدم للصناعة وللاقتصاد المصرى الكثير. كانت الأربعينيات من القرن العشرين أحد فصول النضال ضد الاحتلال الإنجليزى. انضم حينها غالى إلى اللجنة الوطنية للطلبة والتى قامت بعمليات فدائية ضد الاحتلال (هل تذكرون فيلم فى بيتنا رجل؟). وقادت الحركة المظاهرات والاحتجاجات ضد جيش الاحتلال المنتشر حينذاك فى جميع أنحاء مصر. كما انحاز جمال غالى أيضا إلى الفقراء والمحتاجين عبر الانضمام إلى حزب يسارى سرى هو الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى (حدتو).
• • •
أنهى غالى دراسة العلوم بين الكلية والسجون. وبعد التخرج، التحق بشركة سيد للأدوية. كان الاحتلال البريطانى فى مراحله الأخيرة، وصارت قضية توفير الدواء والعلاج لعامة الشعب هى المجال الأساسى لنضاله. كان قد تشرَّب أفكار دار الأبحاث العلمية، والتى أسسها يساريون مصريون، والتى قامت خلال الفترة 1943ــ1946 بعمل أبحاث ودراسات هامة وقدمت مقترحات عملية لبناء وتطوير صناعة الدواء فى مصر، ونشرتها من خلال دوريات كانت تصدرها وتناقشها خلال محاضرات أسبوعية. وهكذا صار غالى أحد أهم منفذى هذه المقترحات حين تم تكليفه فى بدايات الحقبة الناصرية برئاسة شركة العبوات الدوائية التابعة للمؤسسة المصرية العامة للأدوية. وكما كان عبقريا فى النضال السياسى، كان مبدعا فى مجال عمله، فأدخل عددا كبيرا من التطويرات والاختراعات الحديثة إلى الصناعة، وظل مع كل ذلك محتفظا بخفة ظله واستقامته ووسامته.
صال غالى وجال فى جميع الشركات الدوائية، وقام بالتصنيع المحلى لمستلزمات الإنتاج وقطع الغيار. وعلى غرار كل نابه واثق، أحاط نفسه بمجموعة من أكفأ المعاونين من شباب الكيميائيين والمهندسين العاملين بشركات القطاع العام مثل شركة العبوات الدوائية، والنصر للزجاج والحديد والصلب.
فكان من أوائل إنجازاته حين تصدى لحل مشكلات العبوات الزجاجية والأِشربة وأغطيتها التى كانت فى ذلك الوقت غير محكمة الغلق، مما قد يتسبب فى حدوث كوارث صحية. قدم جمال غالى الأغطية التى يتم فتحها فقط بواسطة المستهلك، فى وقت كانت الشركات الأجنبية تشوه سمعة الدواء المحلى بنشر أخبار عن وجود حشرات بداخل عبواته. كما قدم مقترحا لتطوير وتوحيد شكل وفوهة وبالتالى أغطية العبوات على مستوى شركات الدواء فى مصر. وكانت شركة النصر لصناعة الزجاج والبلُور (ياسين سابقا) هى المنتجة لتلك العبوات، وتعهد شخصيا بتحمل تكاليف تطبيق هذا المقترح الذى نجح نجاحا باهرا وحقق طفرة هائلة فى زيادة الإنتاجية وتحقيق الجودة المطلوبة والملائمة وخفض التكاليف لخطوط الإنتاج الحديثة.
كما قام مصنع النظارات الطبية التابع لإدارته بتصنيع نظارة شعبية تباع للجمهور بسعر زهيد فى متناول الجميع.
وفى السبعينيات، لمواكبة التطور فى تغليف الأقراص والكبسولات، طلب غالى من وزير الصحة تخصيص الأموال لاستيراد الآلات اللازمة لإنتاج ما يسمى بالشرائط المرنة من المعدن والبلاستيك. وكما هو متوقع، اعتذر الوزير لعدم توافر تلك الأموال. ولكنه فى المقابل، عرض عليه تولى تأسيس شركة فليكسى باك التابعة لشركة إكديما وهى شركة مؤسسة باستثمارات عربية مشتركة كأحد مشروعات التكامل العربى لإنتاج الأدوية وعبواتها، والذى تم تجميده بعد أن وقعت مصر على اتفاقية كامب ديفيد. وقبل جمال غالى المنصب، وأسس الشركة والتى أنتجت العبوات التى كان يحلم بها. وهكذا صارت على يده كل العبوات الحديثة اللازمة لصناعة الدواء تنتج محليا بالكامل وبالمطابقة لأحدث المواصفات العالمية، بالإضافة إلى ملاءمتها لخطوط الإنتاج المصرية.
وبعيدا عن الدواء، أدخل غالى صناعة الكراسى البلاستيكية القابلة للتعقيم ووفرها لجميع المستشفيات المصرية. وكان أول من أنتج الصوب البلاستيكية اللازمة للزراعة، والتى كانت تستورد بالعملة الصعبة، وذلك بالتعاون مع مركز البحوث الزراعية. كما قدم المعونة الفنية لتغليف بطاقات الرقم القومى الحالية بالبلاستيك المتين بشكلها الحالى.
•••
فى تقديرى كانت لدراسته الموثقة الوافية التى قدمها إلى حسنى مبارك فى بداية التسعينيات الأثر النافذ فى إقناع الرئيس وقتها بتعديل التصور الخاص بالخصخصة. فقد أشار بعدم خروج قطاع الدواء من أيدى الدولة بالكامل إنتاجا وتسعيرا، حتى لا يتعرض أمن مصر الدوائى للخطر. وقد قامت الحكومة وقتذاك بتعديل القرار من البيع بالكامل (وفقا لتوصيات البنك الدولى وهيئة المعونة الأمريكية) إلى بيع نسبة لا تتجاوز 40% من الأسهم إلى العاملين بتلك الشركات.
ومن أهم إنجازاته التى أسهمت فى تطوير صناعات الأدوية والبلاستيك والزجاج وغيرها من الصناعات هى تأسيس ورئاسة الجمعية المصرية لتطوير التعبئة والتغليف فى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين. كم أقامت هذه الجمعية من ندوات علمية ولقاءات مثمرة لتقديم وشرح كل جديد فى عالم مواد التعبئة والتغليف وكل ما يتصل به من مجالات مثل حساب تكاليف إنتاجها، ودراسة الموارد الطبيعية اللازمة للإنتاج ومدى توافرها محليا والحفاظ عليها من الاستنزاف.
وكانت الجمعية فى ذلك الوقت المبكر جدا من أوائل من أدخل احتساب التكاليف البيئية إلى تكاليف التعبئة والتغليف، وقدم أحدث الأساليب للتخلص الآمن من المخلفات بعد الاستخدام، وأفضل الوسائل لتخفيف وزن العبوة وإعادة استخدامها والتدوير، وذلك بهدف تخفيض التكاليف والحفاظ على الموارد. واشترك فى الجمعية وأنشطتها أهم كوادر قطاع الصناعات المختلفة وأساتذة الجامعات ومديرى أنشطة الإنتاج بالقوات المسلحة. وقد أغنوا جميعا تلك الأنشطة العلمية، كما أثرت الجمعية معلوماتهم وشجعتهم على إحداث التطوير والتحديث فى مختلف القطاعات، وكذلك تدريب الأجيال الجديدة من المديرين، وهكذا قدم كل ما حباه الله به من علم وقدرات قيادية وشجاعة وخلقه الكريم وحب عميق لمصر وأبناء وطنه ممن هم فى أشد الحاجة لحياة أفضل.
ولا يمكن تقليل أثر زوجته ورفيقة دربه الفاضلة المحبة التى ساندته وقدرته حق قدره، وضحت معه وهيأت له التفرغ لخدمة البلاد والنضال فى جميع مراحل عمره من أجل مبادئه وتطوير الصناعة.
فى النهاية، رحل جمال غالى فى صمت فى شقته التى عاش بها طوال عمره، دون أن توفيه الدولة ولو بعض العرفان والتكريم أو حتى مجرد ذكر لبعض إنجازاته العظيمة التى لم أذكر سوى جزء مما كنت شاهدة عليه بنفسى. رحمه الله رحمة واسعة، هو وكل أمثاله من الرفاق المناضلين الشرفاء وأكثر من أمثالهم.