أقف على طرف الساحة المكتظة فى نيويورك لأتمالك أنفاسى بعد خبر مزعج تلقيته عبر الهاتف من عائلتى فى القاهرة. أسند ظهرى على عمود الكهرباء بين خيمتين تبيع إحداهما الخبز الطازج والثانية الورود الطبيعية. من حيث أقف، أرى أجسادا تتحرك فى هذه السوق الأسبوعية، حيث يأتى الباعة من مناطق مختلفة من المدينة ومن خارجها ليبيعوا منتجات يقولون إنها طازجة، ولم تحتوِ فى زراعتها على أى مواد كيماوية بما فى ذلك السماد الكيماوى أو مبيدات الحشرات. هنا فرشة خضراء وملونة من الخضار المختلف، بعدها طاولة عليها عسل النحل فى عبوات مختلفة تبدو وكأنها ذهب سائل وضعه صاحبه فى علب من الزجاج. ثم أنواع من الزهور والورود، بعضها غريب علىّ، وتشبه بأشكالها وترتيبها وألوانها اللوحات التى يزين به الناس بيوتهم.
***
رغم الزحام من حولى، إلا إننى وفى الدقائق الأولى لوقوفى عند العمود أشعر وكأننى جالسة على كرة عملاقة من القطن الأبيض، أنا موجودة ولكن جسدى يأخذ حركة كرة القطن وكأننى لا أتحكم بأطرافى، أشعر بعمودى الفقرى وكأنه إحدى العرائس التى يحركها الرجل بالخيطان، لكن الرجل غير موجود والعروسة منكفئة على نفسها وخيوطها من حولها، أنتظر مَن سوف يشد خيوطى فيفرد لى ظهرى ورقبتى ورأسى. أنا لست هنا لكن عيناى وأذناى وأنفى هنا، فأرى وأسمع وأشم ما حولى من دون أن أشعر بطاقتهم.
الشابة الشقراء تدفع بعربة تحمل طفلين أمسك كل منهما موزة، الشاب الأسمر يقف قبالتى عند عمود آخر للكهرباء، يتحدث على هاتفه النقال ويستخدم اليد الثانية فى إكمال التعبير فيحركها بعصبية. الرجل الخمسينى يمد يده ليدفع ثمن الخبز الذى اشتراه وهو يبتسم للفتاة التى تضع الرغيف فى كيس ورقى بنى اللون، السيدة الثمانينية تعلق كيس المشمش الذى أخذته من البائع على جهاز المشى الذى يساعدها أن تنتقل بين الدكاكين دون مرافق. الساحة حيوية لا تهدأ، ومشهد الحركة من حيث أقف يبدو وكأنه مشهد على شاشة التلفزيون. نيويورك مدينة وفية جدا لصورتها النمطية، تشبه أدوارها العديدة كما ظهرت فى الأفلام وفى البرامج الوثائقية، من يزورها يشعر أنه يعرفها، سواء أحبها أم نفر من اكتظاظها.
***
يحضرنى بيت شعر لمحمود درويش هو المفضل لدى، رغم صعوبة اختيار بيت لدرويش دون غيره، فأسمع صوته يعلو فوق ضجيج المدينة: «فى الشام أعرف من أنا وسط الزحام». أنا الآن فى نيويورك لا أشعر بجسدى وسط المارة، لا أحس بيدى اللتين تمسكان بشنطتى وبجهاز الكمبيوتر بعد أن غادرت المكتب. هنا، فى مدينة عشت فيها وأحببتها قبل أن أتركها لأعود إلى عالمى، لا أعرف من أنا فى هذه اللحظات التى أحتاج فيها أن أركز تفكيرى حتى أستدل على بعض الحلول السريعة للخبر الذى تلقيته.
أن تشعر أنك وحيد فى ساحة وسط مدينة كبرى شىء غريب للغاية، لا أعنى شعورا بالوحدة إنما شعورك بالساحة وكأنها خالية، رغم أنك ترى من فيها بخطواتهم السريعة وبحركات أيديهم المعروفة عند سكان نيويورك، فلسكان هذه المدينة سمعة تشير إلى صفة لا أرى أنهم يستحقون وصمهم بها، وهى أنهم أكثر حدة من سكان مدن أخرى، حركاتهم أقل انسيابية ولهجتهم أكثر دقة فى اللفظ. كتب الكثير عن الشعور بالوحدة رغم الزحام لكن ليس هذا ما يجتاحنى. فى تلك اللحظة أنا فى الساحة فى نيويورك لكن لا شىء من الساحة يلتصق بى أو أنتمى إليه، أنظر إلى ما حولى وكأنه فى حوض سمك، أقف أنا خارجه فلا أسمع حتى أصوات أبواق السيارات وصفارات إنذار عربات الإطفاء.
فى الشام، حيث الحركة أبطأ واللهجة ممطوطة والزحام ازداد لطبيعة توسع العاصمة فى آخر ثلاثين سنة أو أكثر، هل كان يمكن أن أستطيع الانسلاخ عن نفسى كما يحدث هنا فى نيويورك؟ أم ترانى سوف أضحك حين أسمع البائع هناك ينادى على الموز «أبو نقطة يا موز» أو يحلف ألا يأخذ سعر البطيخة إن لم تكن حمراء سكرية و«عالسكين يا بطيخ».
***
غريب هو شعورنا بالأماكن من حولنا وباندماجنا بها أو انسلاخنا عنها، وخصوصا أوقات التوتر العالى. فى اللغة الإنجليزية يصف بعضهم تجربة الشعور بأننا «خارج الجسد»، لكننى لا أعرف إن كان ذلك فعلا هو التوصيف الدقيق لشعورى فى مكانى على ناصية الساحة، فأنا لم أكن خارج جسدى لكننى لم أكن أشعر أننى أريد التحكم به، أردت فقط أن أقف هكذا على حافة حياة الآخرين الذين لا يعنوننى فى شىء لأننى لا أعرفهم ولا تهمنى قصصهم. لم أكن أريد البكاء رغم أننى كنت أقف على حافة البكاء، لم أكن أريد أن أتواصل مع أصدقائى هنا أو فى مدن أخرى. أردت فقط ولمدة دقائق أن أقف على حافة الحياة دون أن يعيرنى أحد أى اهتمام، ثم أن أعود إلى نفسى فأجدها فى ساحة أخرى بعيدة عن نيويورك، فوقفت على حافة الساحة وعلى حافة الحياة، واحدة بين مئات من هم على الساحة فى نفس اللحظة وسمعت صوتا ينادى داخل رأسى:
فى الشام
أمشى نائما، وأنام فى حِضْن الغزالة
ماشيا. لا فرق بين نهارها والليل
إلا بعضُ أشغال الحمام. هناك أرضُ
الحُلْمِ عاليةٌ، ولكنَ السماءَ تسيرُ عارية
وتَسكُنُ بين أَهل الشام...