التقيت فى الأيام القليلة الماضية عددا من الشباب الذين يظنون أن «الدولة ظلمتهم» وأن «المجتمع أساء إليهم» وأنهم يتم التمييز ضدهم لأنهم لن يدخلوا الكليات التى يريدونها لأن مجموعهم «ضعيف».معظمهم بدا لى شديد الحرص على الصلوات ويستخدم مصطلحات دينية تعبر عن محاولة جادة للتدين.
ولكن هذه معضلة. الكثيرون، متدينين أو غير متدينين، يريدون أن يحصلوا على ما يعتبرونه «حقوقهم» دون أن يؤدوا واجبهم، إنهم «أرادوا الخروج» من دون أن «يعدوا له عدته» فألقوا بأنفسهم فى مفارقة الأمل فى سنن الله الخارقة من دون العمل من اجل سنن الله الجارية.
إن الرسول الكريم أعد عدة الهجرة من طعام وشراب ودابة ورفيق ودليل (وإن كان كافرا) آخذا بسنن الله الجارية، ثم جاء احتياجه لسنن الله الخارقة حين قال صاحبه: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا»، فتدخل الله بسننه الخارقة بأن أوحى لعبده ألا يحزن فإن الله معه.
وكأنه يكرر مقولة موسى عليه السلام يوم أخذ بسنن الله الجارية بأن أسرى بعباد الله ليلا لأنهم متبعون، وحين احتاج المؤمنون مع موسى لسنن الله الخارقة كان الله عونا لهم فقال موسى «إن معى ربى سيهدين».
●●●
إن عظمة الحضارة الإسلامية لم تأت من قدرتها على خرق العادات والارتفاع فوق قوانين الطبيعة وتحدى سنن الله فى خلقه، بل باكتشافها والتفاعل معها. فقدروا العقل ورفعوا منزلته، وطوروا مناهج وأدوات بحث جديدة اختلفت جوهرياً عما خلفه اليونان القدماء. لقد اخترعوا علوما كالجبر مثلا، وصححوا مسارات أخرى كالكيمياء والفيزياء والطب، لقد جمعوا سيادة الكون وعبادة الله فى معادلة تؤمن بسنن الله الكونية وتستلهم العمل من دون البحث عن خرق القوانين. قال احدهم: للجهاد معجزاته والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا حتى من دون أن نكون أقوى من عدونا، فلا ينبغى أن نؤجل الجهاد فى فلسطين وأفغانستان والعراق، قلت:
ولكنك تخليت عن سنة الله فى خلقه، فالموت وحده ما كان أسمى أمانى المؤمنين الأوائل، فلو صح هذا لما عاد خالد بن الوليد بالجيش من مؤتة بعد أن تبين له استحالة النصر وهلكة الجيش، وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا من باب «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» (البقرة 195). إن نصرة دين الله هى أسمى أمانينا، أما الشهادة، بنصر أو من دون نصر، فهى نتيجة سعينا للنصر وليست هدفا فى ذاتها.
فلقد أجل الرسول بعض المعارك (كغزوة ذات الرقاع مثلا)، إلى ما بعد صلح الحديبية حتى يأخذ بسنن الله الجارية فى الإعداد والتخطيط والنصر. لقد استعان الرسول بسنن الله فى خلقه بأن جعل الحكمة والعلم ضالة للمؤمن (رغما عن أنه لا يوجد حديث بهذا النص)، وقد وجدهما المسلمون عند الفرس فى فكرة حفر الخندق، وعند الرومان حينما استعان المسلمون بالمنجنيق لفتح الطائف، وعند المنافق (صفوان بن أمية) لحرب هوازن.
إن المسلمين قد ابتلوا بمرض تسجيل المواقف (بالدعاء مثلا) أكثر من السعى العملى لحل المشكلات (بالتفكير العلمى من أجل التخطيط لمستقبلهم).
سمعت أحد الدعاة فى شريط إسلامى يقول: «إن الله لن ينصر المسلمين على اليهود حتى يكون عدد المسلمين فى صلاة الفجر كعددهم فى صلاة الجمعة»، إن صلاة الفجر واجبة، وهى فى المسجد أفضل درجات عند الله، هذا مما لا شك فيه، لكن ما علاقة صلاة الفجر فى حد ذاتها بالنصر على اليهود؟، ربما كان يقصد أن يقول إن الله سينصر المسلمين إذا أبكروا بالقيام من النوم طاعة لله ثم عملا دءوبا لينفعوا أنفسهم والمؤمنين وعشقا فى إتقان ما يعملون ولسان حالهم: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم».
●●●
إن سنن الله الخارقة لا يمكن التخطيط لها لأنها ليست بأيدينا، وإنما بيد الله يقلبها كيف يشاء «وما يعلم جنود ربك إلا هو» (المدثر 31)، ويمكن أن تعمل فى صالح المؤمن كما للكافر. فالله «رب العالمين»، وليس فقط «رب المسلمين»، وعلى هذا فالعاقل المخلص فى عمله، وإن كان كافرا سينتصر على المزيف والمتواكل وإن بدت عليه أمارات الإيمان. إن مثل حال المسلمين كمن يرفض أن يتعلم السباحة ويخطط أن يغزو محيطات وبحار العالم بالدعاء من دون العمل.
إننا بحاجة لإعادة ترتيب الأولويات لنجعل قيم العمل والعلم والابتكار والاتقان فى المقدمة على قيم الصبر المتخاذل والتواكل الساذج ودعاء العجزة وانتظار المعجزات.