الطريق إلى الدولة القوية - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 5:05 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الطريق إلى الدولة القوية

نشر فى : الأحد 6 أغسطس 2017 - 9:25 م | آخر تحديث : الأحد 6 أغسطس 2017 - 9:25 م
طبعا لا تعرف العلوم السياسية مصطلح تثبيت الدولة، ولكنها تعرف مصطلح الدولة القوية، وأظن أن الساعين إلى تثبيت الدولة فى مصر لا يمانعون ــ نظريا على الأقل ــ أن تصبح مصر دولة قوية. فما هو المقصود بالدولة أولا؟ وما هو المقصود بالدولة القوية؟ وما هى شروط وجود مثل هذه الدولة؟ وما هى العقبات التى تعترض توافر هذه الشروط؟

لاحظوا أولا أن المقصود بالدولة ليس فقط الأجهزة التنفيذية، أى الحكومة وشرطتها وقواتها المسلحة، ولكن الدولة هى مجتمع سياسى مستمر يعلو غيره من المجتمعات، ويتسم بانقسام دائم بين الحكام والمحكومين فالدولة تشمل من يحكمون، ودعونا نسميهم بأجهزة الدولة التى تملك إصدار أوامر ملزمة واجبة الطاعة لمن تحكمهم، ولكنها تشمل أيضا الشعب أو فى تسمية العصور الحديثة المواطنين. أجهزة الدولة هذه تشمل سلطات الدولة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، بل إن البعض يضم إليها أيضا المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية.

ويخلص علماء السياسة إلى أن الدولة القوية لها دعامتان أساسيتان، أولهما استقلال أجهزتها فيما تتخذ من قرارات، فتصدر هذه القرارات بناء على تفضيلاتها وقواعدها ومنطق عملها، وليس تحت ضغوط من قوى داخلية كشيوخ القبائل أو رجال الأعمال أو المؤسسة الدينية، كما تسعى هذه الأجهزة لأن توسع من مجال حريتها فى مواجهة القوى الخارجية، ولكن الدعامة الثانية لا تقل أهمية، لأنها تقضى بأن يتم هذا الاستقلال فى إطار من القبول العام من جانب المجتمع لما تقوم به هذه الأجهزة. أى إن رضاء المواطنين هو الشرط الثانى لوجود الدولة القوية، بعبارة مختصرة الدولة القوية هى المتحررة من الضغوط فى صنع قراراتها وفى إنفاذها وهى التى تحظى بالشرعية من جانب مواطنيها.

أهمية الشرط الثانى أن الدولة حتى ولو تحررت من الضغوط فى صنع سياستها ولكن لم تتمتع بالشرعية فإنها لا تصبح دولة قوية، وإنما هى دولة مستبدة. هذا هو حال الدول التى تحكمها ديكتاتوريات عسكرية أو نظم الحزب الواحد والتى عرفنا فى الوطن العربى وفى العالم الكثير منها.

أول الصعوبات: استقلال أجهزة الدولة فى إدارة شئونها

وإذا تأملنا هذا المفهوم للدولة على ضوء الواقع المعاصر للدولة المصرية لاكتشفنا صعوبات أساسية على طريق بناء الدولة القوية. أول هذه الصعوبات أن الاستقلال المطلوب لأجهزة الدولة فى صنع قراراتها دون ضغوط لا يجب أن ينطبق فقط على السلطة التنفيذية، ولكنه لابد وأن ينطبق أيضا على سلطات الدولة الأخرى التشريعية والقضائية. من المؤكد أن الرئيس يملك استقلالا واسعا فى صنع قراراته فى مواجهة جميع مؤسسات الدولة الأخرى بل وكل قوى المجتمع. ولكن هل تتمتع السلطة التشريعية ممثلة فى مجلس النواب بأى استقلال؟ لا داعى للخوض فيما تناثر من كتابات عن دور أجهزة الأمن فى انتخابات هذا المجلس، ولا ما يقال عن مصدر بعض التشريعات التى سببت لمصر مشاكل فى علاقاتها الخارجية ولم تأت للمجلس من الحكومة، ولا عن نسبة ضباط الشرطة والقوات المسلحة السابقين بين أعضائه ورؤساء لجانه. ولكن يكفى السماع لشكوى أعضاء المجلس أنفسهم أنهم لا يتاح لهم حتى أبسط حقوقهم فى طرح الأسئلة، ناهيك عن التقدم باستجوابات، ويكفى معرفة أسماء من أطيح بهم من عضوية المجلس من بين أنشط الأعضاء فى نقد سياسات الحكومة، بل يكفى أن نعرف أن أكثر القضايا إثارة للجدل فى المجتمع لم تستغرق من المجلس فى جلساته العامة بضع ساعات أو أحيانا دقائق مثل مذكرة التفاهم المبرمة مع صندوق النقد بشأن الإصلاح الاقتصادى، أو مشروع ميزانية الدولة أو اتفاقية ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية، وذلك حتى نتيقن أن حدود استقلال المجلس فى علاقته بالسلطة التنفيذية محدودة للغاية. وهو ما صرح به رئيس المجلس نفسه بأن دور المجلس هو مساندة الحكومة فهو والحكومة فى صف واحد. ولكن من يمكنه القول بأن النقد البناء والمناقشة الصريحة المستنيرة لما تقوم به الحكومة ليس مساندة لها وتصويبا لأخطائها.؟ أو ليس صديقك هو من صدقك لا من صدقك؟

وهل يمكن القول أن السلطة القضائية تتمتع بالاستقلال فى إدارة شئونها، بينما اعترضت هيئاتها الأربع على تعديلات قوانينها التى منحت رئيس الجمهورية سلطة تعيين رؤسائها ضربا بعرض الحائط بمبدأ الأقدمية الذى استقرت عليه منذ عهود طويلة.
لقد فقدت معظم مؤسسات الدولة والمجتمع استقلالها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وليس فقط سلطات الدولة الثلاث، لصالح رئيس الجمهورية. يستوى فى ذلك المؤسسات الجامعية والإعلامية والأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية، بل ويتجدد الحديث عن مشروع قانون فى مجلس الشعب يمعن فى بسط سيطرة السلطة التنفيذية على مؤسسة الأزهر، وهى واحدة من أهم المؤسسات الدينية فى مصر.

اختزال شرط استقلال أجهزة الدولة فى صنع قراراتها وفقا لتفضيلاتها فى سيطرة مؤسسة واحدة على جميع المؤسسات الأخرى يحد كثيرا من قوة الدولة، لأنه يحرم المؤسسات الأخرى من أن تدير عملها وفقا لقواعدها المرعية، ويدخل اعتبارات غريبة عنها فى تسيير أمورها، ويجعل أعضاءها يشعرون بأن مواطنتهم منقوصة لأن ما يصلون إليه من قرارات بشأن قيادة مؤسستهم رهن بموافقة كتبة تقارير لا تهمهم اعتبارات الكفاءة والسمعة الطيبة وتاريخ الإنجاز بقدر ما يهمهم إظهار الولاء والطاعة لهذه الأجهزة. ليس هناك تشكيك فى وطنية هذه الأجهزة وصدق خدمتها للوطن، ولكن أول مبادئ الإصلاح الإدارى والذى هو شرط لرفع كفاءة أجهزة الدولة هو استقلال كل مؤسسة بإدارتها الذاتية فى حدود القواعد الدستورية السائدة وأحكام القانون التى تصدر تحقيقا لمصلحة عامة وليس تلبية لاعتبارات وقتية. 

***

ثانى الصعوبات: كسب القبول من جانب المواطنين

من حسن حظ الدولة فى مصر أنه لا توجد بها أقليات تسعى للانفصال عنها مثلما حدث فى السودان الذى استقل جنوبه عنه، أو العراق الذى تعتزم حكومة إقليمه الشمالى تنظيم استفتاء لتقرير مصيره فى الخامس من شهر سبتمبر المقبل. وحتى ما يسمى بتنظيم ولاية سيناء الذى يتحدى سلطات الدولة والمواطنين فى سيناء وأماكن أخرى فى الدلتا والصعيد والصحراء الغربية، يدعى أن هدفه هو أن تتحول مصر كلها إلى إقليم فى دولة إسلامية، وهو ادعاء مستحيل التحقيق من الناحية العسكرية وإن كان قد كلف الوطن مئات من الضحايا الأبرياء مسلمين وأقباط، مدنيين ورجال شرطة وقوات مسلحة. ولذلك يمكن القول بأن هناك قبولا واسعا للدولة من جانب الأغلبية الساحقة من مواطنيها، وإذا كان هناك ساخطون على أوضاع فى مصر، فإنهم ساخطون على سياسات وربما على أشخاص، ولكنهم ليسوا ساخطين على الدولة ككيان مؤسسى مستمر.
التأييد المقصود كشرط ثان لقوة الدولة لا يتعلق بالحدود، ولكنه يتعلق بموقف المواطنين من أداء أجهزتها. فهل أثمر هذا الاستقلال فى صنع القرار من جانب السلطة التنفيذية بالتحرر من ضغوط داخلية قبولا شعبيا واسعا؟ 

الإجابة صعبة على هذا السؤال لأن فرص التعبير عن الرأى المتاحة فى مجتمعات أخرى لا تتوافر فى مصر. الشكوى من ضيق فرص التعبير من خلال الصحافة وأجهزة الإعلام شائعة فى كتابات بعض رؤساء الصحف، وهناك فيما يبدو خريطة إعلامية جديدة تنتهى بسيطرة أجهزة فى الدولة أو شركات رجال أعمال على صلة طيبة معها على شبكات التلفزيون الخاصة. كما لا تسعفنا استطلاعات الرأى المحدودة ببيانات جديدة تتعلق بموقف الرأى العام من أداء مؤسسات الدولة بصفة عامة.
ومع ذلك فاستطلاعات المركز المصرى لبحوث الرأى العام – بصيرة ــ توفر بعض المؤشرات المفيدة تتعلق بمدى الموافقة على أداء السلطتين التنفيذية والتشريعية والمحافظين وبعض السياسات. خلاصة هذه الاستطلاعات، وبعضها جرى منذ فترة ليست قصيرة بالنسبة لتقلبات الرأى العام، كشفت عن تفاوت بين درجة رضاء عال نسبيا عن أداء الرئيس السيسى بعد 28 شهرا من توليه الرئاسة، ودرجة رضاء منخفضة عن أداء رئيس الوزراء، ونصف المحافظين تقريبا، ومجلس النواب وتحفظ على السياسات الاقتصادية واتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، وموافقة على أن حالة الطوارئ يمكن أن تفيد فى مواجهة موجات الإرهاب.

استطلاع الرأى حول أداء الرئيس السيسى الذى جرى فى أكتوبر 2016 كشف أن 44% من المواطنين موافقون جدا على أدائه و24% موافقون فقط، بينما لم يوافق على أدائه 13% واعترض بشدة على أدائه11% بينما لم يحظ رئيس الوزراء عند إجراء التعديل الوزارى فى مارس 2017 بنسب قبول عالية، فقد اعتبر 22% فقط ممن أجابوا على هذا الاستطلاع فى مارس 2017 أن أداءه جيد واعتبر 25% أن أداءه متوسط بينما ذهب 18% فى المائة إلى أن أداءه سيئ.

وفيما يتعلق بالمحافظين تجاوز الموافقون على أدائهم فى يوليو 2017 نسبة 50% أو اقتربت منها فى نصف المحافظات التى جرى فيها الاستطلاع وانخفضت عن ذلك فى نصف المحافظات الأخرى، وكانت المحافظات التى لم يحصل أداء المحافظين فيها على موافقة نسبة 50% ممن شاركوا فى الاستطلاع هى المحافظات الحضرية الأربع: القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس.

وانخفضت نسبة الموافقة على أداء مجلس النواب عندما استطلعت بصيرة موقف المواطنين منه فى إبريل 2017، فلم يوافق على أدائه سوى 30% ممن أجابوا على هذا الاستطلاع، ولم يوافق 37% منهم.

أما فيما يتعلق بالسياسات، فلم يثر تجديد حالة الطوارئ اعتراضا ممن استطلعت بصيرة آرائهم فى إبريل 2017، فذهب 63% منهم إلى أنها يمكن أن تسهم فى مواجهة الإرهاب بينما اعترض على ذلك 17% منهم، وعلى خلاف ما ذهبت إليه الحكومة، رأى 47% من المشاركين فى استطلاع بصيرة فى يونيو 2017 أن تيران وصنافير مصريتان، وذهب 11% فقط إلى أنهما سعوديتان، وكان من رأى 63% من المشاركين فى يوليو 2017 أن رفع أسعار الوقود سوف يؤثر على أسعار معظم السلع ولم يكن ذلك رأى 11% منهم.

***

فى حدود هذه المؤشرات يمكن القول إن جهازين من أجهزة الدولة المصرية يفتقدان التأييد بين عموم المواطنين وهما مجلس النواب ومجلس الوزراء، وعلى المستوى المحلى لا يحظى نصف المحافظين برضا المواطنين فى محافظاتهم. كما تفتقد هذه الأجهزة تأييد قطاع واسع من المواطنين فيما يتعلق ببعض جوانب سياستها الخارجية والداخلية، وخصوصا موافقتها على ترسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية واتخاذها إجراءات اقتصادية تمس مستوى حياة كل المصريين.
إذا كان لعلم السياسة أى مصداقية فليس هناك من خطر على كيان الدولة المصرية، وهناك تسليم بوجود السيسى على رأسها فى الوقت الحاضر، ولكن الطريق إلى تقويتها يمر باحترام استقلال مؤسساتها المدنية فى أن تدير شئونها وفقا لقواعدها الخاصة المرعية، وبمعرفة أسباب عزوف المواطنين عن تأييد مؤسستها التشريعية ومجلس وزرائها ونصف القائمين على سلطاتها المحلية وعلاج هذه الأسباب.

 

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات