منظور ديمقراطى للدستور التونسى الجديد - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 11:59 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

منظور ديمقراطى للدستور التونسى الجديد

نشر فى : السبت 6 أغسطس 2022 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 6 أغسطس 2022 - 7:25 م

مع أنه مر أسبوعان على الاستفتاء على الدستور الجديد، فإن مناسبة التعليق عليه لم تنقض. باختصار، فى خلال سنة واحدة، واستنادا إلى المادة 80 من دستور سنة 2014 الخاصة باتخاذ الرئيس لإجراءات استثنائية، أقال الرئيس التونسى قيس سُعيد رئيس حكومته، وجمد مجلس نواب الشعب، ورفع الحصانة عن أعضائه، وتولى هو بنفسه السلطة التنفيذية. بعدها عين الرئيس التونسى رئيسا للحكومة ولكنه تجاهل قيد الشهر الواحد الذى حددته المادة 80 لسريان الإجراءات الاستثنائية ولم يلجأ إلى المحكمة الدستورية غير الموجودة أصلا، لمد سريان هذه الإجراءات كما تنص المادة المذكورة. بعد ذلك، فصل الرئيس التونسى عددا من القضاة من الخدمة بدعوى الفساد، ثم حل مجلس القضاء الأعلى برمته فى فبراير من العام الجارى. وفى مارس حل مجلس نواب الشعب المجمد، ولم يلبث أن طرح نص دستور جديدا للاستفتاء عليه فى الذكرى الأولى لإجراءاته الاستثنائية. يذكر أنه بمجرد الإعلان عن هذا النص، تنصل منه رئيس لجنة صياغة الدستور الجديد معلنا أنه لا يشبه النص الصادر عن لجنته وأنه يفتح المجال «لقيام نظام ديكتاتورى مشين»، وهو ما يصفى إنجاز الشعب التونسى فى سنة 2011.
• • •
كانت نسبة المشاركة فى الاستفتاء يوم 25 يوليو الماضى 30 فى المائة من الهيئة الناخبة البالغ عددها 9,3 مليون ناخب وناخبة، تقارن بنسبتى الـ40 و41 فى المائة فى كل الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية فيما بين 2011 و2019، بل وبنسبة الـ60 فى المائة فى انتخابات المجلس التأسيسى الذى وضع دستور سنة 2014. فى الوقت الذى دعا فيه الرئيس التونسى أنصاره إلى عدم الالتفات إلى نسبة المشاركة وإلى الاحتفال بما اعتبره درسا لقنه الشعب التونسى للعالم، فإن المعارضين الذين كانوا قد دعوا إلى مقاطعة الاستفتاء وجدوا فى انخفاض نسبة المشاركة إنكارا لشرعية الدستور الجديد، ورفضا له، وتمسكا بدستور سنة 2014.
بخلاف اعتراضهم على الإجراءات الاستثنائية المتخذة فى يوليو 2021 وعلى أسلوب حكم الرئيس سعيد، وعلى قراراته أثناء العام المنصرم، فإن المعارضة والقانونيين التونسيين ركزوا فى رفضهم للدستور الجديد على الباب الرابع منه الخاص بالسلطة التنفيذية وعلى المادتين الخامسة والخامسة والخمسين، ويمكننا أن نضيف إليها المادة الثامنة والستين من الباب الثالث الخاص بالسلطة التشريعية.
فى الباب الرابع من الدستور، يبدو جليا التركيز الشديد لكافة السلطات التنفيذية فى يدى رئيس الجمهورية، وهو يعين الحكومة ويعفيها، وفقا للمادتين 101 و102، والحكومة مجرد أداة معاونة، ينحصر دورها فى تطبيق سياسات الرئيس وتوجهاته، ومساعدته فى ممارسة السلطة التنفيذية حسبما تنص المادة 87 .والرئيس هو وحده، من دون الحكومة، الذى يرسم السياسة العامة للدولة ويحدد اختياراتها الأساسية وهو يخطر بها مجلس نواب الشعب والمجلس الوطنى للجهات والأقاليم الذى استحدثه الدستور الجديد، وفقا للمادة 100. وللرئيس حق العفو الخاص، وفقا للمادة 99، كما يحق له حسب المادة 97 أن يعرض للاستفتاء مشروع قانون لتنظيم السلطات العامة، أى لتعديل النظام السياسى، وذلك دون عرضه أولا على مجلس نواب الشعب أو موافقة الحكومة عليه. والرئيس محصن دون أى محاسبة، فهو لا يسأل عن الأعمال التى قام بها فى إطار أدائه لمهامه وفقا للمادة 110، بينما تقع المسئولية برمتها على كاهل الحكومة، رغم أنها مجرد أداة معاونة.
فى باب السلطة التشريعية، وفى المادة 68 تجد أن لكل من الرئيس ولعشرة نواب على الأقل حق عرض مشروعات القوانين على البرلمان، ولا ذكر لحق الحكومة فى ذلك، ولمشروعات القوانين التى يعرضها الرئيس أولوية على تلك التى يقدمها النواب. قارن هذا النص بالمادة 122 من الدستور المصرى لسنة 2014 التى تنص على أنه لرئيس الجمهورية ولمجلس الوزراء ولكل عضو فى مجلس النواب اقتراح القوانين.
• • •
مادتان أخريان تثيران جدلا هما الخامسة والخامسة والخمسون. المادة الخامسة من الباب الأول عن الأحكام العامة تنص على أن «تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل، فى ظل نظام ديمقراطى، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف فى الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية». وتنص المادة الخامسة والخمسون على «ألا توضَع قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور إلا بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطى وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطنى، أو الصحة العمومية». منظمات حقوقية انتقدت المادة الخامسة معتبرة أنها تتيح التمييز ضد الجماعات الدينية الأخرى، أما المادة 55 فلقد اعتبرت نفس هذه المنظمات والمعارضة أنها تفتح مجالا للحد من الحريات. نعلق على الجدل بشأن هاتين المادتين قبل العودة إلى المواد المذكورة من البابين الرابع والثالث وهى الأصل الذى يعنى به هذا المقال. بشأن المادة الخامسة، فإن كان ثمة تمييز ضد الجماعات الدينية الأخرى فهو موجود منذ دستور 2014، بل ومنذ دستور 1959، الذى نصت المادة الأولى فى كل منهما على أن الإسلام هو دين الدولة. المادة السابعة والعشرون أبقت على ضمان الدولة لحرية المعتقد وحرية الضمير. ربما أرادت المادة الخامسة التأكيد على احتكار الدولة تحقيق مقاصد الشريعة حتى لا تقدم عليه جماعة من الجماعات بدعوى الغيرة على الدين أو ما شابهها. بالمناسبة أربعة من المقاصد المذكورة فى المادة 27 من الدستور الجديد هى نفسها الواردة فى حكم للمحكمة الدستورية المصرية الصادر فى سنة 1996 وهى، وإن كانت بترتيب مختلف، النفس والعرض والمال والدين. المقصد الخامس للشريعة بالنسبة للدستور التونسى الجديد هو الحرية بينما فى حكم المحكمة الدستورية المصرية هو العقل. يمكن الاحتفال بالالتقاء حول مقاصد أربعة ولكن مع الانتباه إلى صعوبة الاتفاق فى كل مكان، فما بالك بكل زمان، على جميع مقاصد الشريعة الإسلامية. الخطر الحقيقى ليس فى نص المادة وإنما فى الشطط فى تفسيرها وتطبيقها اللذين يتيحهما الدستور بإطلاقه حرية اتخاذ القرار لرئيس للجمهورية ولرغباته وبدون أى موازنة لها من قبل البرلمان أو الحكومة. أما المادة 55، ففيها فعلا بعض الخطر حيث إنها لا تميز بين الحقوق والحريات القابلة للتعليق وتلك التى لا يمكن تعليقها فى أى ظرف من الظروف مثل الحق فى الحياة والحق فى عدم التعرض للتعذيب والحق فى الحماية من الاسترقاق.
• • •
الغرض الأساسى للرئيس قيس سعيد من إصدار دستور جديد كان تعزيز سلطة رئيس الجمهورية والاقتراب بالنظام السياسى التونسى لنموذج النظام الرئاسى. السبب فى ذلك هو الشلل الذى أصاب النظام السياسى التونسى منذ اعتماد دستور سنة 2014 نتيجة لتوزيع الصلاحيات بين الحكومة ومجلس نواب الشعب، والتصادمات بينهما، بينما كان دور رئيس الجمهورية ثانويا فى تسيير النظام السياسى حتى تمرد عليه الرئيس سعيد، وتجاهل أحكامه الدستورية. أسباب أخرى ساقها الرئيس سعيد منها تقديم الأحزاب لمصالحها على المصلحة العامة التونسية، والأزمة الاقتصادية الطاحنة التى أمسكت بتلابيب البلاد، والفساد الذى استشرى. أغلب الأسباب التى ساقها الرئيس التونسى حقيقية، ولكن يثور السؤال: هل فى تركيز السلطات فى يدى رئيس الجمهورية وفى النأى به عن المساءلة أى ضمان للتغلب على هذه الأسباب؟ تركيز السلطات هذا يشبه إلى حد بعيد تركيزها فى يدى رئيس الجمهورية فى دستور سنة 1959 الصادر فى عهد الرئيس الحبيب بورقيبة والمعدل فى عهد الرئيس زين العابدين بن على. هل منع هذا التركيز التسلط والفساد والتفاوتات عن تونس وهل حقق لها التنمية المنشودة، بدون إنكار لتقدم شهدته بعض الملفات فى ظل هذا الدستور قياسا بالدول العربية الأخرى مثل التعليم، ووضع المرأة، والقوة النسبية للمجتمع المدنى؟ هل حال هذا التركيز دون إضرام محمد البوعزيزى للنار فى نفسه فى ولاية سيدى بوزيد المحرومة، ما أدى إلى اندلاع الثورة فى ديسمبر 2010؟ الثورة التى نجحت فى إسقاط الرئيس بن على فى يناير 2011 كانت على كبت الحريات، وعلى القمع، وعلى سوء استغلال النفوذ، وعلى الفساد، وعلى الفقر والتفاوتات بين فئات الشعب التونسى وبين المناطق التى يسكنونها. لماذا سينجح دستور 2022 فى درء ما مكن من حدوثه دستور سنة 1959، مع أنه يشبهه إلى حد بعيد بل يفوقه فى تركيز السلطات فى يدى رئيس الجمهورية؟
• • •
لا يوجد ملائكة بين البشر. توزيع السلطة السياسية، والموارد الاقتصادية، هو الذى يضمن التوازن بين الناس ويحقق لهم مصالحهم ويكفل اتخاذ أكثر القرارات سلامة. تركيز السلطة والثروة لا يثمر عدالة بل لا بد أن يؤدى إلى التسلط والقمع وسوء استغلال النفوذ والفساد. كثرة من المعلقين لا يشكون فى الرئيس سعيد، ولكنهم يتخوفون من أن تسود الديكتاتورية من جديد على أيدى من يخلفونه فى رئاسة الجمهورية فى ظل الدستور المعتمد منذ أسبوعين. إضعاف السلطة التشريعية والحكومة يمهد الطريق، وأى تمهيد، لذلك.
البحث الجماعى عن توازنات جديدة فى توزيع الصلاحيات والمسئوليات كان السبيل لمعالجة المحنة التى عاشتها تونس فى العشر سنوات الماضية. وهو السبيل أيضا لغيرها من بلداننا العربية، كل حسب تاريخها وتجربتها، حتى تبرأ من التسلط والأزمات والتخلف، وتتخذ لنفسها ولشعوبها أمكنة جديرة بين الأمم.

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات