على خطى أحمد بن فضلان (2 ــ 4) - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الجمعة 13 سبتمبر 2024 2:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

على خطى أحمد بن فضلان (2 ــ 4)

نشر فى : الثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 7:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 8:03 م

فى عام 921 ميلادية (309هـ) خرجت من بغداد بعثة دينية سياسية بتكليف من الخليفة العباسى «"المقتدر بالله» إلى قلب القارة الآسيوية فى مكان عُرف وقتها باسم «أرض الصقالبة»؛ تلبية لطلب ملكهم فى التعريف بالدين الإسلامى، تألفت السفارة من فقهاء ورجال دولة ومؤرخين، وفى مقدمتهم كان أحمد بن فضلان الذى اختاره الخليفة لخبرته الواسعة.

حينما عبَّرت هوليود عن اختيار الخليفة العباسى لأحمد بن فضلان فى الفيلم الشهير «المحارب الثالث عشر» غمزت إلى أن الخليفة أراد أن يقتنص زوجته الجميلة ويضمها لحريمه فتخلص من ابن فضلان فى بعثة مهلكة لا عودة منها.

وبعيدا عن خيال الإغراء والإغواء الاستشراقى لهوليود تشير المصادر التى بين أيدينا إلى أن قيصر البولجار «ألموش بن يلطوار» أرسل للخليفة المقتدر بالله طلبا بإرسال سفارة إلى القيصرية البولجارية لشرح مبادئ الإسلام، على أن يرسل الخليفة من يبنى للقيصر مسجدا يطل من محرابه على شعبه، وقلعة حصينة لمجابهة الأعداء، وهنا جاء الاختيار على رجل يجمع بين الفقه والحكمة «أحمد بن فضلان».

ما وراء النهر

خرجت القافلة من بغداد مرورا بالمدن الفارسية ومنها إلى نهرى جيحون وسيحون، وصولا إلى خوارزم وبلاد الأوغوز التركية.

فشل ابن فضلان فى تحصيل الأموال التى أمره الخليفة بجمعها من مدن خوارزم لتلبية طلب قيصر البولجار وفقد الموكب رجاله بين البرد والمرض، وبدا أن الأجدى العودة إلى بغداد، وهناك سيقع لا محالة العقاب الواجب بأمراء خوارزم وسمرقند وبخارى الذين رفضوا دعم البعثة بالأموال اللازمة.

وفى منطقة الانتقال بين خوارزم وبلاد الترك فى أواسط آسيا تصبح الصدقة للسائل والعابر هى السماح بالجلوس إلى النار ليصطلى، فيرصد ابن فضلان ثقافة الملبس؛ فلا تبدو من الرجل بسبب كثافة ملابسه سوى عينيه، وناقش بشكل أولى فكرة التكيف المناخى.
وفى خط المسير يبدأ ابن فضلان فى مواجهة أول أسئلة البيئة الوثنية حينما يسأله رجل:

«قل لربك ما الذى يريده منا لكى يرفع عنا هذا البرد؟
فيجيبه ابن فضلان: يريدكم أن تقولوا: لا إله إلا الله
فيجيب الرجل: لو علمنا أن ذلك سيجدى لقلناها».
ثم يسأله بعض أهل تلك البلاد: «ألربنا امرأة؟»، فيستعظم ابن فضلان الأمر، ويستغفر الله ويعظمه، ويردد التركى خلفه الاستغفار والتعظيم فى محاولة للاعتذار.

وبالتوغل نحو الشمال والاقتراب من أراضى البولجار يلاقى ابن فضلان أقوامًا تتعدد لديهم الآلهة، وعنهم يقول:
«ورأينا أقوامًا يعبدون الحيات، وأقوامًا يعبدون السمك، ومنهم من يزعم أن له اثنى عشر ربًّا: للشتاء رب وللصيف رب وللمطر رب... إلخ. والرب الذى فى السماء أكبرهم، إلا أنه يجتمع مع هؤلاء باتفاق ويرضى كل واحد منهم.. تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا».
إذا كنت تعرف جغرافية المنطقة ستصيبك الدهشة وأنت تتابع تلك الأحداث وتسأل نفسك:
لماذا اختار ابن فضلان هذا الطريق الوعر وتلك المشكلات الكثيرة عبر خوارزم والأوغوز ولم يختر الطريق المختصر عبر بحر قزوين وصولا إلى البولجار بشكل مباشر؟
هذا السؤال هو نفسه الذى يثير تعجبنا حين نتابع رحلات الشقاء التى كان يعانيها الحجاج المغاربة والمصريون والأفارقة خلال توجههم إلى الحجاز فى العصور الوسطى.

فبدلا من اختراق الطريق التقليدى السهل فى وسط سيناء (درب الحج المصرى)، إذ بهم يضطرون إلى الالتفاف فى طريق شاق طويل يتعذبون فيه فى صحراء مصر الشرقية حتى يصلوا إلى ميناء «عيذاب» فى منطقة حلايب فى جنوب شرق مصر حاليا، والتى ظن البعض توهما أن اسمه مشتق من «عذاب» الحجاج.

كان السبب فى عذاب الحجاج هو قيام إمارات صليبية فى فلسطين وشرق نهر الأردن وكانت تتربص بالحجاج المسلمين الذين يعبرون سيناء وتفتك بهم، وهو ما أضر بسمعة مصر خاصة فى عهد صلاح الدين الأيوبى فتم التوصل إلى الطريق الطويل المرهق عبر الصحراء الشرقية المصرية وصولا إلى المنطقة التى تمثلها اليوم «حلايب» و «أبو رماد» ومنها مباشرة ــ فى قوارب مهلكة عبر البحر الأحمر ــ إلى جدة ومكة المكرمة.

وإذا كانت تلك التجربة المؤلمة قد عرفتها مصر فى القرون من الثانى عشر إلى الرابع عشر فقد عرفتها رحلة بن فضلان فى القرن العاشر قبل ذلك بوقت طويل، هذه المرة بسبب قيام دولة يهودية الزعامة قوقازية الشعب وقفت حاجزا فى وجه الخلافة العباسية.
كانت هذه الدولة تسمى «دولة الخزر»، ومنها عرف بحر قزوين لقرون طويلة باسم «بحر الخزر».

فى زمن رحلة ابن فضلان كانت الخزر مملكة قوية، وشعبا متنوع الأعراق والقدرات والمهارات وقد وقفت عقبة مانعة أمام 4 قوى جيوسياسية فى المنطقة وهي:

• العرب بدينهم الجديد من الجنوب فى عهد الخلافة العباسية.
• الروس (الصقالبة) بغزواتهم البربرية من الشمال الغربى.
• بيزنطة من الغرب والجنوب الغربى وعبر البحر الأسود.
• إمارة بولجار الفولجا من الشمال الشرقى.
وكانت الخزر قد تمكنت من إخضاع منطقة واسعة (انظر الخريطة المرفقة) تمتد من كييف (الروس) غربا إلى بولجار على نهر الفولجا شرقا.


مملكة الخزر

وبعد أن انحسرت نسبيا فى القرن 10 قوة الخزر وتحرر بولجار الفولجا من سيطرتهم ذهب ملك البولجار إلى البحث عن حليف جديد ليكون له حليفا استراتيجيا ومرجعا أيدولوجيا وبالتالى جاءت سفارة أحمد بن فضلان لبناء مسجد وقلعة وتعليم الإسلام والإعلان عن اتخاذ الإسلام دينا رسميا لتلك الدولة التى امتدت فى الحوض الأوسط لنهر الفولجا.

جدير بالذكر هنا أن الخزر كانت تتألف من مركب فريد فى بناء الدولة، فالجمهور الأعم للمواطنين كانوا مزيجا من معتنقى الديانات الطبيعية أو المسيحية أو الإسلام أما الحكام فكانوا من اليهود.

وهذه واحدة من الفترات التاريخية الفريدة التى كانت الطبقة الحاكمة لا تدين بدين الشعب ولا يفرض الحكام عليهم دينهم أو يبشرون به (اليهودية ضد التبشير كما هو معلوم).

والحقيقة أن اليهود فى الخزر جاءوا أصلا من إقليم المشرق ولهذه قصة طريفة.

فبعد أن قهر الرومان اليهود من فلسطين وطردوهم، رحبت فارس بهم لا سيما أن الدولة الفارسية القوية كانت عدوة للرومان، ومن ثم وجد اليهود المطرودين ترحيبا واحتضنتهم فارس وعاشوا فى كنفها قرونا بوضع مميز للغاية.

لكن فى القرون التالية حدثت حروب أهلية فى فارس ولا سيما فى الثورة الشعبية المسماة بالحركة المزدكية، والتى كانت تسعى إلى حكم اشتراكى من أجل توزيع الثروة على الفقراء ونهب ثروة الأثرياء والملوك والأمراء وتوزيعها على عموم الشعب.

وقد انقسم اليهود فى إيران بين مؤيد ومناهض للمزدكية، واضطروا إلى الفرار من جحم الحرب الأهلية إلى كل من بيزنطة والخزر، ثم طردت بيزنطة يهودها (لاتهامهم بالخيانة لصالح العرب) فلحقوا بإخوانهم فى دولة الخزر.

على هذا النحو كانت دولة الخزر ذات ديانة يهودية رسيمة وقوة معادية للخلافة العباسية.

وهنا تظهر المفارقة بين من يرون أن الإسلام وصل إلى تلك الأصقاع الباردة فى العمق الآسيوى فى الفولجا نتيجة أسباب روحية ومدد دينى وإعجاب بالإسلام ومن يرون أن وصول الإسلام هنا جاء ضمن «اللعبة الاستراتيجية الكبرى» فى القرن العاشر الميلادى.

ذلك لأن ملك البولجار كان يريد أن يستعين بالخلافة العباسية ذات البعد الدينى المغاير لليهود وفى نفس الوقت لما بين الخلافة العباسية والخزر من عداوات.

والمدهش أن القدر التاريخى لعب ضد قرار البولجار فى البداية، إذ تغافل ملك البولجار عن أن الخلافة العباسية كانت تستهل رحلة انهيار وسقوط ولن تستطيع بغداد تقديم أى مساعدة فعلية للبولجار.

لكن المدهش فى التاريخ أنه مع تراجع الخلافة الإسلامية العباسية حلت مفاجأة غير متوقعة وهى صعود القبائل البدوية غير المنظمة الممثلة فى الصقالبة الروس وعملوا لصالح بيزنطة تارة ولصالح أنفسهم تارة أخرى بل وكانوا قد عملوا مرتزقة لدى الخزر قبل ذلك، ثم فى النهاية قرروا العمل لصالح أنفسهم وهجموا على تخوم الخزر وساهموا ــ ضمن عوامل أخرى ــ فى سقوط تلك الدولة التى احتلت مكانا وموقعا مهيمنا فى أوراسيا.

فى هذه الأجواء وصل ابن فضلان فى عام 922 ميلادية إلى ملك البولجار ولم يكن أحد يعرف أن التاريخ يخفى توسع البولجار وانهيار الخزر وصعود الروس من قبائل بدائية لتكون لها الكلمة الأولى فى المنطقة وستحكم مصير الخزر وتهدد بولجار الفولجا فيما بعد.

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات