لست فى حاجة لأن أكتب مقالة طويلة عريضة لأثبت بالقانون والمنطق والأدب والأخلاق أن ما حدث فى موضوع التسريبات جريمة لابد أن يعاقب عليها المذيع الامنجى برتبة طبال أو الضابط الذى قام بالتسريب أو الجهاز بأكمله الذى يقوم بالتسجيل. فأسئلة مثل «أين إذن النيابة؟»، و«كيف لا يُحاسب هؤلاء الأوغاد؟» وغيرها من الجمل التى تصلح كترجمة لأفلام أنيس عبيد فقدت أى قيمة الآن وبصراحة مالهاش أى لازمة.
لم أتعجب من موضوع التسريبات لكن ما أصابنى بالدهشة بصراحة هو جودتها.. الكواليتى يعنى!
بمعنى أن التسريبات للسياسيين والنشطاء ليس بها أى شىء عليه القيمة. «واحد بيهزر مع صاحبه» والتانية بتقول «طب شوفولى ملفى». وشوية ناس بيقولوا ألفاظ قبيحة حبتين فى التليفون. من الآخر كلام «فسسسسسس»: مافيش كواليتى.
ومع ذلك، كان ذلك كافيا لأن ينشغل الناس بهذا الكلام الفارغ. لم يهتم المشاهدون والمستمعون بأن ما فى المكالمات لا يثبت أنهم خونة أو عملاء. بل ركز الناس على «الفضيحة» مع أنه ليست هناك فضيحة. ركز الناس على أحاديث الأسرار وغرف النوم مع أنه ليس هناك أسرار ولا غرف نوم. لقد نجحت هذه التسريبات الخايبة فى أن تجعل المواطن ملهيا فى حالة القيل والقال وفلان عمل وعلان سوى و«اسكتى مش قفشوه وهو بيتكلم فى التليفون؟».
لا يوجد شىء على الإطلاق يستحق التعليق، ولكن حالة النميمة والشائعات «وتعال لما أقولك» هى المطلوبة. بالضبط مثلما يخرج صحفيون كبار ومحللون عتاولة ليكشفوا للشعب المصرى كمية الاستاكوزا والبط والوز الذى كان يلتهمها مرسى يوميا فى القصر الرئاسى. تفاصيل تافهة وقصص عبيطة لا يمكن أن تستخدم فى قضية التخابر أو التجسس أو قتل المتظاهرين، المتهم فيها مرسى ورفاقه. ولكنها كافية لخلق جو «اللكلكة» والنميمة ولا مؤاخذة قعدات النسوان.
كأن هذه التسريبات ومن هيأ المناخ لها الهدف منها أن تنشغل بكلام فاضى وتافه ويضيع مجهودك بلا فائدة فى كلام لا يودى ولا يجيب، وفى النهاية تلعن البلد والسياسة واللى عايز يشتغل فيها.
وهو ده المطلوب.
لذلك لا يهم أن تدين المذيع الامنجى ولا أن تشجب وتندد بالجهات السيادية، الشتيمة ما بتلزقش. وأيضا لا يهمنا فضيحتنا اللى بقت بجلاجل فى وسائل الإعلام الغربية لأن أجهزة الدولة مشغولة بحوار القبض على عروسة وفك شفرات إعلان شركة محمول. لا يهم لأن منظرنا عزيزى القارئ مش ولابد أصلا فى الخارج فلا مانع من إضافة نكهة فكاهة على الموضوع.
المفجع فى الأمر أن الناس قد تركت القضية الأساسية إنه لا يصح ولا يجوز التسجيل لأحد، وانشغلوا بمين شتم ومين قبح.
لذلك فبدلا من أن نناقش الدستور وحرية الرأى والممارسات القمعية والفشل الامنى، «خدلك البونبوناية دى اتسلى فيها شوية». مرة تسريبات ومرة عروسة ومرة مؤامرات إنت مش فاهمها لكن مصدقها. ولما تفوق،ماتقلقش عندنا من ده تانى كتير.
لقد فشل الإخوان فى تحويل الصراع السياسى إلى صراع دينى. فحين خرج مرسى يتنطط على الناس بمن يصلى الفجر ومن لا يصلى، استنكر المواطن البسيط «المتدين بطبعه طبعا» هذا الأسلوب من التنطيط فلفظهم. أما الآن فتجد أن «خالتى اللتاتة» ذهبت إلى المكان المفضل للمصريين فى أنهم يلتون ويعجنون فى سيرة الخلق. لذلك فما أسهل تحويل الأنظار عن الصراع السياسى إلى جلسات نميمة. فتنشغل أنت وتتسلى ويتفرغ الكبار للعب التقيل.
وهو ده المطلوب
الله أعلم إن كان هناك أسلوب وخطة ممنهجة للتجسس على المصريين وإن ما كشفه المذيع الامنجى هو مجرد قشور. ولكن هذا شىء غير مهم الآن. فأنت عزيزى المواطن قد تم استنفاد مجهودك فى مناقشة التسريبات وتنتظر المزيد كأنك تنتظر الحلقة المقبلة من المسلسل التركى. وفى نفس الوقت تداعب من يتصلون بك فى التليفون، وتقول لهم «خللى بالك أحسن التليفونات متراقبة». تقولها «بهزار» ولكن بداخلك توتر خفى، لأنه احتمال فعلا أن تكون مكالماتك مسجلة، فتبدأ بدون أن تشعر بفرض الرقابة على نفسك وعلى ما تقوله.
وهو ده المطلوب
بل تجد الآن من أصبح يعيش فى جو أفلام جيمس بوند فينزع البطارية أو يضع التليفون خارج الغرفة ليتكلم معك على راحته. فالإشاعة السارية الآن أن هناك تكنولوجيا متطورة لمراقبتك حتى وتليفونك مغلق. فإن لم تكن هناك تسجيلات، فهناك جو من الترقب والخوف والقلق أن كل ما تقوله مذاع على الهواء.
وهو ده المطلوب
بالمناسبة أتمنى من كل قلبى وجود هذه التكنولوجيا المتطورة، وأناشد الجهات المعنية بأن يوجهوا بعضا من هذه التكنولوجيا المتطورة للتجسس على الإرهابيين، ومن يقومون بالتفجيرات وقتل الجنود والمواطنين. ليس بالضرورة أن يتوقفوا عن التجسس علينا فى غرف النوم، ممكن يتجسسوا على الإرهابيين ساعتين من وقتهم كل يوم لما يزهقوا مننا.
المواطن العادى فى متابعته المحمومة للتسريبات خائف على نفسه وحياته الشخصية. والمواطن العادى فى سخريته من موضوع «أبلة فاهيتا» يقول لنفسه: «إذا كانت العروسة ما سلمتش منهم أمال حيعملوا فينا إيه؟».
شايف الخوف ده؟ هو ده المطلوب
هل رأيت كمية عصافير مثل هذه تضرب بحجر واحد؟
أولا أنت مستنزف فى مناقشة تفاهات غير أخلاقية، وفى المستقبل سيصبح التجسس والتنصت على حياتنا اليومية واللت والعجن وكلام النساوين شيئا عاديا ومقبولا ومجرد مادة للنميمة.
ثانيا أنت لا تعرف إذا كان يتم التسجيل لك أم لا، ولكنك حذر فى كلامك لأن الاحتياط واجب. وربما تشك الآن أن مكالماتك مسجلة أو أن أصدقاءك «مزقوقين عليك».
ثالثا أنت مازلت تتحسس إذا كانت هناك ديمقراطية حقيقية أم لا ولكنك ترى ما تفعله أجهزة النيابة بسبب دمية «فتجيب ورا لأن الطيب أحسن». فاليوم نضرب العروسة عشان بكره يخاف السايب.
فى تونس كان الكثيرون يخافون من الكلام حتى داخل منازلهم لأنهم كانوا يظنون أن داخلية «بن على» زرعت أجهزة متطورة فى كل شارع وحارة لتلتقط كل كلمة يقولها الناس حتى داخل بيوتهم. بعد رحيل «بى على» لم يتم تأكيد وجود هذه الأجهزة، ولكن مجرد الخوف من شبح التجسس جعل الناس خائفين مرعوبين حتى فى الكلام مع أنفسهم.
شايف الجو ده؟ هو ده المطلوب.
وإذا كنت تعتقد أن هذا المقال مغرق فى نظرية المؤامرة، ويفترض أشياء غريبة وغير منطقية. وما له يعنى هى جت عليا أنا؟
لذلك فقبل أن تنتفض وتصرخ وتعمل فيها الفاهم الواعى المنتقد للدولة العبيطة، وتقول: «معقول الدولة تنشغل بعروسة وتسريبات تليفونية هبلة».
لا يا سيدى، الدولة مش عبيطة زى ما انت فاكر. الرسالة وصلت وإنت مش واخد بالك.
أتمنى لكم مشاهدة طيبة ونميمة ممتعة.