قبل أقل من ثلاثة أسابيع من إجراء الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، وقبل ثمانية أسابيع من الموعد المعلن لتسليم المجلس العسكرى السلطة لرئيس ينتخبه الشعب المصرى فى أول انتخابات رئاسية تنافسية فى تاريخه، يتعرض التحول الديمقراطى المنشود لخطر يبدو داهما. الأخطار التى هددت الثورة تتابعت، بل وتصاعدت منذ شهر مارس من العام الماضى، ولكنها أصبحت غيوما ملبدة فى الأيام الأخيرة من شهر إبريل الماضى وفى الأسبوع الأول من شهر مايو الجارى، وهى غيوم يشق على علماء الأرصاد السياسية فهم أصولها، والأسباب المؤدية إليها، وتطورها.
اعتصمت مجموعات مؤيدة لحازم أبوإسماعيل أمام وزارة الدفاع فى القاهرة معترضة على استبعاده من المنافسة على منصب رئيس الجمهورية فى الانتخابات المقبلة ومطالبة بإلغاء تحصين قرارات اللجنة العليا للانتخابات بمقتضى المادة 28 من الإعلان الدستورى. اعتدت على المعتصمين مجموعات من «البلطجية»، بل واقتحمت هذه المجموعات المستشفيات واعتدت على المصابين ومنعت الأطباء من علاجهم. بدا الأمر وكأنما «البلطجية» يزودون عن المجلس العسكرى، وبصرف النظر عمن استدعى هؤلاء «البلطجية» وحركهم ودفع لهم، فإن هذا شىء لا ينبغى بأى شكل من الأشكال أن يقبله على نفسه المجلس العسكرى. كانت النتيجة أن بدأ رشق وزارة الدفاع بالحجارة، وانضمت مجموعات من الشباب المدنى، من القوميين المصريين ومن اليسار، إلى مؤيدى حازم أبوإسماعيل، تضامنا معهم ودفاعا عن الحق فى التظاهر السلمى. وتصاعد التوتر، وازداد العنف وسقط القتلى ومئات الجرحى من بين المتظاهرين، ودعا من دعا إلى اقتحام مبنى وزارة الدفاع، ورشقت الوزارة بالحجارة، فتدخلت قوات الجيش ودفعت المتظاهرين بعيدا عن مبنى الوزارة إلى ميدان العباسية القريب، ثم أعلن المجلس العسكرى حظر التجول فى الميدان نفسه. فى هذه الآونة كان ممثلون لأحزاب إسلامية ومدنية قد ذهبوا إلى المعتصمين تضامنا معهم، ولكن سرعان ما انسحب أغلبهم، كما انسحبت مجموعات من الشباب وبقيت مجموعات أخرى.
الإخوان المسلمون، وحزبهم الحرية والعدالة، وهو الحزب الإسلامى الأكبر، انضم إلى أنصار أبوإسماعيل فى المطالبة بإسقاط المادة 28، والمفارقة أن هؤلاء وأولئك كانوا قد أخذوا على عاتقهم تمرير هذه المادة وغيرها فى التعديلات الدستورية فى استفتاء 19 مارس 2011. وبينما شكك البعض مسبقا فى نزاهة االجنة العليا التى كانوا قد ساندوا قواعد تشكيلها وصلاحياتها، بالغ البعض الآخر فشكك فى نية المجلس العسكرى تسليم السلطة فى 30 يونيو المقبل وطالبوه بتسليمها فورا. فى المقابل، اؤلئك الذين كانوا قد عارضوا المادة 28 والتعديلات الدستورية كلها، دعوا إلى قبول آثارها، والتركيز على إجراء الانتخابات الرئاسية، حتى يسلم المجلس الرئاسة فى الموعد المضروب، وبدوا وكأنهم يطمئنون إلى أن المجلس سيسلم السلطة فعلا. أدان الجميع إراقة دماء المصريين إلا أن البعض، وهم دعاة مدنية الدولة، تساءلوا عن الحكمة من الرغبة فى اقتحام وزارة الدفاع، بينما سكت آخرون، وهم الإخوان المسلمون، عن إثارة مسألة الحكمة من التحرش بوزارة الدفاع ودعوا أنصارهم إلى التظاهر واستعراض قوتهم، وواصل فريق ثالث، من أنصار ابواسماعيل ومجموعات يسارية يخالف فكرها أفكار ابواسماعيل مخالفة تامة، المطالبة برحيل المجلس العسكرى فورا. انقلبت الأدوار، وصار أنصار المجلس العسكرى خصوما له، بينما أصبح المعارضون لأطروحاته أكثر ثقة فى صدق وعده بأنه سيترك السلطة، ربما لمجرد اعتقادهم بأن المجلس العسكرى لابد أنه قد أدرك الآن عجزه التام عن إدارة العملية السياسية فى البلاد، وعن الانتقال بها إلى النظام السياسى الذى قامت من أجله الثورة.
●●●
المشهد السياسى يشى بأن التحول الديمقراطى فى خطر. تسليم السلطة فى 30 يونيو ليس تكريسا للديمقراطية وإنما هو سيكون إيذانا ببدء البحث فى ارسائها. تبديد الشهور الستة عشر الماضية يقع الجانب الأكبر من المسئولية عنه على عاتق المجلس العسكرى، وهو نتيجة للتعديلات الدستورية المشئومة. نعم، كانت التعديلات مشئومة لأنها قسمت الشعب وفرقت بين قواه الثورية والسياسية، وبدلا من أن تجمعها على برنامج تحول ديمقراطى تتفق عليه، أغرتها بالاختلاف ودفعتها إليه دفعا.
لن تختفى الاختلافات بمجرد أن يتولى الرئاسة رئيس منتخب، فالاختلافات قد تكرست. من ذا الذى يضمن قبول كل الأحزاب والقوى السياسية بنتيجة الانتخابات؟ أفلا يمكن أن يكون التشكيك فى نزاهة اللجنة العليا للانتخابات والمطالبة بإلغاء المادة 28 من الإعلان الدستورى تحسبا لأن تكون نتيجة الانتخابات على غير هوى المشككين والمطالبين؟ فإن شككت الأغلبية البرلمانية للإخوان المسلمين فى شرعية انتخاب رئيس ليس منهم، فكيف سيمكن لهذا الرئيس أن يحكم؟ أى نظام ديمقراطى هذا الذى سيمكن بناؤه، وأى دستور سيمكن التفاوض بشأنه، فى ظل أزمة حكم؟
فى فترات التحول من نظام سياسى سلطوى إلى نظام ديمقراطى تعددى، يصعب على الأحزاب والقوى السياسية الزام أنصارها بأى سلوك سياسى تحدده هيئاتها. هذا مفهوم فى ظل سيولة التحولات السياسية، وقلة خبرة الأحزاب بالعمل السياسى، وضعف التنظيمات السياسية. ولكن الشعور بالمسئولية التاريخية، وهى هنا تاريخية حقا وليست من قبيل المصطلحات الممجوجة، يحتم على الأحزاب والقوى أن ترتفع بمستوى ادائها وأن تتزود بأدوات العمل السياسى وأن تستخدمها بحسن نية. ليس أحد مستثنى من قلة الخبرة بالعمل السياسى، ولا حتى الإخوان المسلمين، فهم جماعة مجتمعية خبيرة بالعمل فى المجتمع، ينشرون دعوتهم الدينية الاجتماعية ويقدمون الخدمات للمجموعات المحتاجة من المواطنين، وهم فى هذا لا يلقون قوى مقابلة لقوتهم، وبالتالى لا يضطرون إلى التعامل معها ومراقبة مواقفها والاستماع إلى وجهات نظرها. فى العمل المجتمعى الدعوة المطلقة ممكنة. إلا أن طبيعة السياسة ذاتها، بل ومعناها اللغوى، يفرض التفاوض، والأخذ والرد، والبحث عن الحلول الوسط. الإخوان المسلمون باعتبارهم المجموعة صاحبة الأغلبية والأكثر تنظيما مطالبون باعتماد أساليب العمل السياسى عبر حزبهم، حزب الحرية والعدالة. والأحزاب المدنية مطالبة هى الأخرى بأن تحكم تنظيماتها وأن تنميها، وأن تدرب أعضاءها على أساليب العمل السياسى ذاتها. الشىء الإيجابى الذى ينبغى تسجيله هو أن حزبا سلفيا، مثل حزب النور، وحزبا من الجهاديين السابقين، مثل حزب البناء والتنمبة، قد ابديا قدرا لا بأس به من الحكمة السياسية فى مواقفهما. على هذه القوى جميعها أن تعمل معا أن على إنشاء نظام سياسى يقوم على احترام الآخر وصون حقوقه وحرياته، وعلى تداول السلطة، وعلى التوزيع العادل لثروات البلاد، وهذه هى المبادئ الأساسية للديمقراطية.
●●●
التحول الديمقراطى فى خطر. لابد أن تعى كل القوى الثورية ذلك وأن تتحرك لإنقاذ الثورة. فشل التحول الديمقراطى هو اندحار للثورة. وهو هزيمة للقوى الثورية وللحركات وللأحزاب المعبرة عنها، هزيمة قد تحكم بالفناء على هذه القوى والحركات، وتترك البلاد فى دوامة يصعب الآن تصور الخروج منها.