فى الجزء الأول من الحوار التليفزيونى، أشار المرشح الرئاسى المشير عبدالفتاح السيسى، الذى عرَّف نفسه بأنه مصرى مسلم متدين، إلى نشأته فى حى «الجمالية»، الذى استضاف أطيافا متنوعة، وكيف أن المعبد اليهودى والكنائس كانت على مقربة منه، ولم يكن الدين مصدرا للاستهجان. وهو عندما يتحدث عن تدينه فى حى شعبى، وأهمية الأخلاق والضمير والنسيج المصرى ورفض الدولة الدينية، واستماعه إلى الشيخ الشعراوى، فإنه يلفت الانتباه إلى تكوينه الدينى الذى يقترب فيه من التدين المصرى، وينأى بنفسه عن الإسلام السياسى، الذى وصفه بأنه غير قابل للحياة، ويسيئ إلى الجانب الإنسانى للدين.
التدين المصرى خاص وفريد. يعى التعددية الدينية، ولا يحكم المصريون المتنوعون دينيا علاقاتهم الاجتماعية فيما بينهم بالرجوع إلى المفاهيم «العقدية»، ولكن بالاستثمار فى علاقات الود، والجيرة، والعمل المشترك، واقتسام الهموم الحياتية، ولاسيما أن الثقافة المصرية تجمع فى رحابها كل ابنائها، رغم أن هناك ثقافات فرعية معتبرة، لها خصوصيتها وأهميتها.
التدين المصرى تعرض إلى تجريف منظم نتيجة متغيرات عديدة، منها انتشار المساجلات العقيدية، شيوع موجات التكفير، الأفكار التى تدعو إلى الفرز بين المسلمين والمسيحيين، اعتداء التيارات الإسلامية على الكنائس وممتلكات المسيحيين، تحويل المشكلات الاجتماعية إلى أزمات دينية طالما أن طرفيها مختلفان فى المعتقد الدينى، الشائعات والآراء الملتهبة والفتاوى المفخخة جميعها أسهمت فى الإساءة إلى التعددية الدينية، الفطرية والتلقائية.
الرجل نشأ فى حى شعبى فى الخمسينيات والستينيات، تشكل وجدانه فيه على مفاهيم الوطن، والتعددية، التدين الشخصى مقابل الدولة التى تسع كل مواطنيها. لا يكفى أن يكون هو شخصيا مؤمنا بذلك حتى يستعيد المجتمع عافيته الاخلاقية، ويستدعى تدينه المصرى الخاص والفريد. التجريف الذى حدث فى مفاهيم المواطنة، والتسامح، والتعددية لا يقل وطأة عن التجريف الذى حدث فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يتطلب استعادتها وجود سياسات عامة تتصدى للتآكل فى وعى المصريين بالتدين البسيط، والتعددية التلقائية، وعلاقات الثقة بين المواطنين.
الرجل يركز فى حديثه المستمر عن «الاخلاق» و«القدوة»، وهو أمر جيد، وقد يكون فى ذهنه التعبير الشائع بأن الناس على «دين ملوكهم»، ينصلح حالهم إذا كان رئيسهم صالحا، ولكن التجربة تشير إلى أن هناك قطاعات من الناس لديها معتقدات أخرى، منها المال والسلطة، النفوذ والثروة، تشدها بخيوط، تبعدها عن الاخلاق الصحيحة، وتقربها من فتاوى السوء التى تبرر لها فسادها وتجبرها. هنا يأتى دور النظام والقانون.
لا أنكر أهمية البعد الاخلاقى فى بناء المجتمعات، ولا أقلل من أهمية وجود ساسة على خلق ومبادئ، وقد عانى المجتمع المصرى لعقود طويلة من غياب الاخلاق إلى حد أن هناك أجيالا من الشباب تربت على مفاهيم مغايرة، لكننى أعتقد أن السياسات العامة الرشيدة، العقلانية، التى تنتصر لحقوق وحريات المواطن، وتدعم اتصاله بموارد مجتمعه، وتمكنه من المشاركة الحقيقية هى التى تبنى المجتمعات.
هذه هى خبرة المجتمعات التى استطاعت أن تتقدم شرقا وغربا، من أمريكا اللاتينية إلى آسيا وأفريقيا.