دولة رجال الاعمال - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 8:46 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دولة رجال الاعمال

نشر فى : الجمعة 7 سبتمبر 2012 - 8:20 ص | آخر تحديث : الجمعة 7 سبتمبر 2012 - 8:20 ص

مشكلة نظام مبارك لم تكن فى فساده فحسب، وإنما كانت بالأساس فى انحيازاته التى أدت لتمكين رجال الأعمال، وتآكل استقلال الدولة عنهم، وهى انحيازات يعاد إنتاجها بعد الثورة فى ظل تسييد خطاب يقصر مشكلة الماضى على فساد الأشخاص.

 

•••

يختار الحكام الفئة المجتمعية التى ينحازون إليها ودرجة الانحياز، أما الانحياز الاقتصادى للدولة فحتمى، وما يتصوره البعض موقفا محايدا بالانسحاب من المجال الاقتصادى هو انحياز لرجال الأعمال، أولا لأن فصل السياسة عن الاقتصاد هو فصل تعسفى مستحدث غير موجود إلا فى النظم الرأسمالية، وثانيا لأن الدولة هى من تضع حدود الملكية الخاصة وطريقة إدارة أدوات الإنتاج والمنافع العامة، وسماحها بأن يمتلك القطاع الخاص هذه الأدوات والمنافع ــ التى كانت قبلا ملكية عامة ــ بانسحابها منها يعنى الانحياز لتمكينه.

 

ثم إن الانحياز لرجال الأعمال يظهر فى الفصل بين قضيتى الإنتاج والتوزيع، ومن ثم الحديث عن «تشجيع الاستثمار» بشكل مستقل عن الحديث عن «حقوق العاملين»، وتقديم الأولى على الثانية، وإيجاد «البيئة الجاذبة للاستثمار» عن طريق وضع القيود على الحركات العمالية، من حظر الأحزاب القائمة على أسس طبقية، لسن التشريعات المقيدة للحريات النقابية، وغير ذلك، فى مقابل تشجيع النشاط الخيرى والتنموى، الذى يحافظ على استمرار النظام بسده بعض الحاجات من غير إدخال تعديلات هيكلية فى بنيته.

 

ويبدو انحياز الدولة لرجال الأعمال كذلك بإشراكها إياهم فى صنع القرار، وذلك بالتحول من نظام الإدارة الحكومية، الذى تصنع القرار فيه الجهات صاحبة الشرعية الديمقراطية، وتنفذه البيروقراطية، إلى نظام الحوكمة، الذى يشارك فيه رجال الأعمال فى صناعة وتنفيذ القرارات رغم كونهم غير منتخبين، وتتلاشى المساحات الفاصلة بينهم وبين السلطات المنتخبة، ويصيرون أقرب فئات المجتمع لقلب السلطة يشاركون فى تشكيل سياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء.

 

•••

كانت هذه الانحيازات الاقتصادية أهم ما ميز نظام مبارك، بخاصة فى سنواته الأخيرة التى تضاءلت فيها المساحة النسبية لاستقلال الدولة عن رجال الأعمال حتى تلاشت، وتجلت هذه الانحيازات أولا فى تشكيل لجنة سياسات، التى كان نصيب رجال الأعمال فيها كبيرا، ثم فى الحكومات المتلاحقة والتى شهدت مشاركة مباشرة متزايدة لرجال الأعمال فى السلطة التنفيذية.

 

كما ظهرت الانحيازات فى سياسات الدولة كالخصخصة وتشجيع الاستثمار، بالتوازى مع التضييق على الحركات العمالية بحظر النقابات المستقلة والتدخل الأمنى للسيطرة على النقابة الرسمية، فى مقابل التوسع فى العمل الخيرى والتنموى، ومشاركة نجلى الرئيس المخلوع فيه، وتشكل نخبة جديدة فاستبدلت بالطبقة الحاكمة التقليدية (التى تشكلت من فئات مجتمعية مختلفة) أخرى من أرباب الأعمال.

 

وهذه الانحيازات أنتجت ظلما اجتماعيا، فتنامت فجوات الدخل، وتركزت الثروة فى يد القلة، وتزايد الإفقار وتراجع دور الدولة فى تقديم الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والإسكان (وحجم ومصارف إنفاق الدولة فى هذه المجالات جميعا عبر بشكل فج عن انحيازاتها)، وهذه المظالم تحولت لمطالبات عبر عنها الثوار بهتافى (عيش) و(عدالة اجتماعية).

 

غير أن النظام الجديد، الذى لم يزل فى طور التشكل، لم يحاول بعد التحرر من تلك الانحيازات، فهو لا يزال يشرك رجال الأعمال فى الحكم بشكل لا يمكن تبريره ديمقراطيا، ومن تجليات ذلك مشاركة عدد من رجال الأعمال الرئيس فى رحلته الخارجية للصين، على نحو يدل على مشاركتهم فى صياغة السياسة الخارجية والاقتصادية، وكذلك ما صرح به أحدهم عن «تعاون غير مسبوق» مع الوزراء، و«وعود من الوزراء بتذليل العقبات أمام قطاع الأعمال» لإيجاد مناج جاذب للاستثمار، وهى وعود تندرج ــ فى بعض الديمقراطيات التى تحافظ على حقوق الطبقات العاملة ــ تحت مسمى الفساد، ومن تجليات الانحيازات ما تم الإعلان عنه من تشكيل لجنة للتواصل المستمر بين الرئاسة ورجال الأعمال، وهو ما يعطى لهؤلاء ميزة ليست لغيرهم من الفئات، تعبر عن مشاركة غير ديمقراطية فى الحكم.

 

•••

لم يكن ذلك المؤشر الوحيد على الانحياز الطبقى للدولة، فله أوجه أخرى، منها مشاركة بعض رجال الأعمال الفاسدين ممن استفادوا من علاقاتهم بنظام مبارك فى الرحلة، الأمر الذى يعنى الاستعداد للتصالح معهم نظرا للحاجة إلى الوحدة فى مواجهة التحديات، التى يتم تصويرها باعتبارها تحديات تواجه الوطن، لكنها فى الحقيقة تحديات تواجه بقاء هذه الانحيازات، بسبب تصاعد موجات الاحتجاج الاجتماعى، الأمر الذى يستوجب وحدة رجال الأعمال للحفاظ على مصالحهم الطبقية.

 

والانحياز الطبقى يظهر كذلك فى مفردات الخطاب السياسى التى تحورت مدلولاتها، فـ«التوافق المجتمعى» الذى سعت إليه أطراف المشهد السياسى (حكما ومعارضة) فى الجمعية التأسيسية للدستور كان مراده ــ كما ظهر فى الجدل ــ إيجاد تمثيل كافٍ لأبناء هذه الطبقة من جميع الاتجاهات السياسية، فيما ظل الحديث عن تمثيل المفقرين والمهمشين بالجمعية هامشيا، و«المواطنة» الموجبة للحقوق والواجبات المتساوية يكون التركيز فيها على نيل هذه الحقوق بقطع النظر عن الجنس والعرق والدين (وكلها تنوعات داخل طبقة رجال الأعمال)، ولا ينصرف الجدل إلا نادرا لبحث ضمانات تحصيل المفقرين حقوقا مساوية، ولذلك تخرج إعلانات (الوحدة الوطنية) فيها أناس بألوان سياسية ودينية وعرقية مختلفة، وكلهم ــ مع ذلك ــ من نجوم المجتمع.

 

ويظهر الانحياز فى القبول بقرض صندوق النقد الدولى، لا بسبب الحاجة للأموال، وإنما لدلالاته سواء السياسية (عدم ممانعة الدول الكبرى التعامل مع النظام الجديد، وهو ما لا يكون بغير «شراكة» اقتصادية)، أو الاقتصادية (تحفيز الاستثمار، والمضى قدما فى «الإصلاحات الهيكلية» التى أفقرت المصريين خلال العقدين الماضيين)، التى تجعله ــ فى نظر الدولة وحلفائها من رجال الأعمال «ضرورة»، فتسعى إليه وتغض الطرف عن إصلاحات الهياكل الاقتصادية لتصير أكثر تحقيقا للعدالة، حتى الإصلاحات الهامشية كإعادة هيكلة الأجور والضرائب، وهى لا تتعلق بصلب انحياز الدولة، لكنها تسعى للتخفيف من حدته.

 

•••

إن بقاء هذه الانحيازات إنما يعنى استمرار الظلم الاجتماعى الذى قامت ضده الثورة، فالاقتصاد ــ من حيث كونه إدارة للموارد على النحو الذى يحقق أعلى مصلحة للمجموع ــ أمر أخطر من أن يترك للاقتصاديين وحدهم، بل لا بد أن تكون الكلمة فيه للشعب، يحدد التوجه من خلال أصحاب الشرعية الديمقراطية وحدهم، أما جعل الأمر لا للساسة ولا للاقتصاديين، وإنما للتجار ورجال الأعمال ممن تقوم تصوراتهم الاقتصادية على فكرة (الشركة) لا (الدولة)، فهو استهتار بمقدرات الأمة، وفتح باب واسع لإهدارها.

 

 

التعليقات